[b][size=18](1) مَنْزِلَةُ الْحَدِيثِ:
هذا الْحَدِيثُ مِن جَوامعِ كَلِمهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَنْهُ الإمامُ الشَّافعيُّ رحِمَهُ اللَّهُ: (حديثُ النِّيَّةِ يَدْخُلُ فِي سبعينَ بابًا مِن الفقهِ، وَمَا تَرَكَ لِمُبْطِلٍ، وَلا مُضَارٍّ، وَلا مُحتالٍ حُجَّةً إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى).
وَقَد قَالَ النَّوَوِيُّ: (لَم يُرِدِ الشَّافعيُّ رحمَهُ اللَّهُ انْحِصَارَ أبوابِهِ فِي هَذَا الْعَدَدِ، فإنَّها أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ).
وَقَالَ الشـَّوكانيُّ رحمَهُ اللَّهُ: (وَهَذَا الْحَدِيثُ قاعدةٌ مِن قواعدِ الإِسْلامِ؛ حتَّى قِيلَ: إنَّهُ ثُلُثُ العِلْمِ).
وَقَالَ كَذلِكَوَهُو علَى انفرادِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُفْرَدَ لَه مُصَنَّفٌ مُستقِلٌّ).
ومِنْ تعظيمِ العُلماءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ رَأَوُا البَداءَةَ بِه فِي مُصنَّفَاتِهِم؛ وَذَلِكَ تَنبيهًا لطالبِ العِلْمِ إِلَى تصحِيحِهِ نيَّتَهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحمنِ بْنُ مَهدِيٍّ: (مـَنْ أرادَ أَنْ يُصَنِّفَ كِتابًا فلْيَبْدَأْ بِهَذَا الْحَدِيثِ).
عَمِلَ بِهَذِهِ النَّصيحةِ:
- البخاريُّ رحمهُ اللَّهُ بدأَ بِهِ فِي (صحيحِهِ).
- وكذلِكَ: تقيُّ الدِّينِ المقْدِسِيُّ فِي كتابِهِ (عُمْدَةِ الأَحْكَامِ).
- وَكَذَلِكَ: السُّيوطِيُّ فِي (جامِعِهِ الصَّغِيرِ).
- والنَّووِيُّ فِي (المجموعِ).
وَقَالَ أَبُو عُبيدٍ: (لَيْسَ فِي الأَحَادِيثِ أجمعُ، وَلا أغنَى، وَلا أنفعُ، وَلا أَكْثَرُ فائدةً منْهُ).
هلِ الْحَدِيثُ سِيقَ بِسَبَبِ مُهاجرِ أُمِّ قَيْسٍ؟
ظنَّ قَوْمٌ أنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ بِسَبَبِ رجلٍ أرادَ الزَّواجَ مِن امرأةٍ يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فهاجَرَ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ، وَلَم يَبْتَغِ بِهِجْرَتِهِ فضيلةَ الهجرةِ، واسْتَدَلُّوا بالآتي:
- عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مـَنْ هاجرَ يبتغِي شيئًا فإنَّمَا لَهُ ذلِكَ، هاجَرَ رجلٌ ليتزوَّجَ امرأةً يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فَكَانَ يُقالُ لَهُ: مُهاجِرُ أمِّ قيسٍ).
ورواهُ الطَّبرانيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخرَى عَنِ الأَعْمَشِ بلفظِ: (كَانَ فينَا رجلٌ خَطَبَ امرأةً يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حتَّى يُهاجِرَ، فهاجَرَ فتزوَّجَهَا، فكُنَّا نُسَمِّيهِ: مُهاجرَ أمِّ قيسٍ).
قَالَ الحافظُ: (وَهَذَا إسنادٌ صحيحٌ عَلَى شرطِ الشَّيْخينِ، لكنْ لَيْسَ فِيهِ أنَّ حديثَ الأعمالِ سِيقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَم أرَ فِي شَيْءٍ مِن الطُّرقِ مَا يَقْتَضِي التَّصريحَ بذلِكَ).
فائدةٌ:
وسببُ بحثِ الْعُلَمَاءِ عَنْ سَبَبِ صدورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ هَذَا يُعِينُ علَى فَهْمِ النَّصِّ، كمَا حَرَصَ المفسِّرونَ علَى مَعْرِفةِ أسبابِ النُّزولِ.
قَالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (بَيَانُ سَبَبِ النُّزولِ طَرِيقٌ قويٌّ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ).
وَقَالَ ابنُ تيمِيَّةَ كذلِكَ: (مَعْرِفةُ سَبَبِ النُّزولِ تُعينُ عَلَى مَعْرِفةِ الآيَةِ؛ فإنَّ العِلْمَ بالسَّببِ عِلْمٌ بالمُسَبَّبِ).
وَكَذَلِكَ معرفةُ سَبَبِ صدورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعِينٌ عَلَى فَهْمِهِ.
معنَى الْحَدِيثِ:
1 - قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّما الأَعْمَالُ)) هَذَا التـَّركيبُ يفيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ لوُجودِ (إنـَّما)حَيْثُ هِيَ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ؛ ولأنَّ (الأعمالَ)جَمْعٌ مُحَلًّى باللامِ، وهذَا يُفيدُ الاستغراقَ المُستَلْزِمَ للقَصْرِ.
وهذَا فَهْمُ ابنِ عباسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّراكيبِ، كمَا فِي: ((إِنَّـمَا الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ))، وَلَم يـُعارَضْ مِن قِبَلِ الصَّحابةِ فِي فَهْمِهِ لِهَذَا التَّركيبِ للحَصْرِ، وإنَّمَا عُورِضَ بدليلٍ آخَرَ يَقْتَضِي التَّحريمَ.
- قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (وَفِي ذَلِكَ اتِّفَاقٌ علَى أنَّهَا للحَصْرِ).
ومعنَى الْحَصْرِ فِيهَا:
(إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي المذكورِ، ونفيُهُ عمَّا عدَاهُ).
2 - تأتي (إِنَّما) فتفيدُ: - الْحَصْرَ الْمُطْلقَ.
- وتارةً تَقْتَضِي حَصْرًا مخصوصًا.
ويُفهَمُ ذَلِكَ بالقرائنِ والسِّياقِ.
فمَثَلاً: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}الظَّاهرُ مِنَ الآيَةِ: حَصْرُ مِهْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنَّذارةِ، وَالأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فالرَّسولُ لا تَنْحَصِرُ مهمَّتُهُ بالنَّذارَةِ، بَلْ لَهُ أوصافٌ أخرَى، كالْبِشارةِ وغيرِهَا.
وَكَذَلِكَ: قولُهُ: ((إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ))، فمعناهُ: حَصْرُ البشرِيَّةِ مِن حَيْثُ الاطِّلاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الأُمُورِ، لا فِي كلِّ شَيْءٍ.
وَكَذَلِكَ: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} والْحَصْرُ هُنَا مِن حَيْثُ آثارُهَا، وإلا قَد تَكُونُ سببًا إِلَى الخيراتِ، أَو يَكُونُ مِن بابِ التَّغليبِ للأكثرِ فِي الْحُكْمِ.
قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (فَإِذَا وَرَدَتْ إنَّمَا فاعْتَبِرْهَا، فَإِنْ دلَّ السِّياقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلامِ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ فقُلْ بِهِ، وَإِنْ لَم يَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ فاحْمِل الْحَصْرَ عَلَى الإِطْلاقِ).
وهذَا الْحُكْمُ مَعَ كلِّ أدواتِ القَصْرِ المعروفةِ.
3 - والحديثُ يَشْمَلُ جَمِيعَ أفعالِ الْجَوَارِحِ: الأفعالِ والأقوالِ؛ لأنَّ البعضَ خصَّصَ الأعمالَ بِمَا لا يَكُونُ قولاً، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، كَمَا قَالَ ابنُ دقيقِ العيد.
كَمَا أنَّ ابنَ عباسٍ يَرَى الْقَوْلَ مِن الْعَمَلِ، وَلَم يُخْرِجْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرينَ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}: إنـَّهُ قَوْلُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ).
كَمَا أنَّ التَّرْكَ مِن الأعمالِ؛ لأنَّهُ عملٌ اختياريٌّ، وَهُو يَخْتَلِفُ باختلافِ النِّيَّاتِ، فَإِنْ تَرَكَ الشَّرَّ
لِلَّهِ، يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ، وَإِنْ تَرَكَ الْخَيْرَ الْوَاجِبَ بِلا عُذْرٍ فَهُو شرٌّ ويُلامُ.
ويَشهدُ لِمَا قُلْتُ قَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: ((إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً -إِلَى قولِهِ- وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً)).
ومفهومُهُ: إِذَا لَم يَتْرُكْ مِن أَجْلِ اللَّهِ لَم تُكتَبْ حَسَنَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا مِن أَجْلِ الخوفِ مِن الْخَلْقِ يَأْثَمُ.وَلَكِنْ يُستَثْنَى مِن التَّرْكِ بَعْضُ الأعمالِ ، كَمَا بَيَّنَ العُلماءُ، مِثْلُ:
- إزالةِ النَّجاساتِ.
- ورَدِّ الْمَضْمُوناتِ، فإنَّها لا تَتَوَقَّفُ صحَّتُها عَلَى النِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ الثَّوابُ فِيهَا عَلَى نيَّةِ التَّقرُّبِ.
4- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنـِّيـَّاتِ)).
هُنَا لا بدَّ مِن تقديرِ المضافِ المحذوفِ، واختُلِفَ فِي تقديرِهِ:
فالَّذينَ اشْتَرَطُوا وُجوبَ النِّيَّةِ قدَّرُوهُ بصحَّةِ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ أَو مَا يُقارِبُهَا.
والَّذِينَ لَم يَشْتَرطُوا النِّيَّةَ، قدَّرُوهُ بِكَمَالِ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ ، وَهَذَا يُرَدُّ؛ لأنَّ النِّيَّةَ شرطٌ فِي قَبولِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ الصَّنعانيُّ، فالقولُ الأوَّلُ أَرْجَحُ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزومًا للحقيقةِ مِنَ الكمالِ، فالعملُ عَلَيْهَا أَوْلَى، وبهذا قَالَ ابنُ دقيقٍ.
5 - قولُهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
مِنْ نَوَى شيئـًا يَحْصُلُ لَه، سَوَاءٌ عَمِلَهُ أَو مَنَعَهُ عَنْه مَانِعٌ يُعذَرُ بِهِ شَرْعًا.
ويَشهدُ لِذَلِكَ أحاديثُ كَثِيرَةٌ، لِمَنْ نَوَى خيرًا وَلَم يَعْمَلْهُ، مِنْهَا:
حديثُ: ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِهِ وَيُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً فَهُو يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُ، فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ))وكلُّ مَا لَم يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَه.
وَلَكِنْ يُستثنَى مِن ذَلِك بَعْضُ المسائلِ المعروفةِ لِمَنْ تَتَبَّعَها ، مِثْلُ مَنْ نَوَى الْحَجَّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ فإنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى عُمْرَةٍ.
والْخُلاصةُ كَمَا قَالَ ابنُ رجبٍ : (فالعملُ فِي نفسِهِ صلاحُهُ وفسادُهُ وإباحتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الحاملةِ عَلَيْهِ، الْمُقْتَضِيَةِ لوجودِهِ، وثوابُ العاملِ وعقابُهُ وسلامتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتي صَارَ بِهَا الْعَمَلُ صالحًا، أَو فاسدًا، أَو مُبَاحًا).
6- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَـنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
قَالَ ابنُ رجبٍ فِي شرحِ هَذَا باختصارٍ وبِتَدَخُّلٍ منِّي: لَمَّا ذَكرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأعمالَ بِحَسَبِ النِّيَّاتِ، وأنَّ حظَّ العاملِ مِن عملِهِ نيتُّهُ مِن خَيْرٍ أَو شرٍّ، وهاتانِ كلمتَانِ جامعتَانِ، وقاعدَتانِ كلِّيَّتانِ، لا يَخْرُجُ عنهما شَيْءٌ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَثَلاً مِن الأمثالِ عَلَى الأعمالِ الَّتي صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ ويَخْتَلِفُ صلاحُهَا وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ، وكأنَّهُ يَقُولُ: سَائِرُ الأعمالِ عَلَى حَذْوِ هَذَا الْمِثالِ.
والهجرةُ حقيقتُهَا: التَّرْكُ.
والهجرةُ إِلَى الشَّيءِ: الانتقالُ إِلَيْهِ عَن غيرِهِ.
- فتَرْكُ بِلادِ الكُفْرِ إِلَى دَارِ الإِسْلامِ يُسمَّى هِجرةً وَهَذِه باقيَةٌ.
- وتَرْكُ مكَّةَ إِلَى الحبشةِ سُمِّيَ هجرةً.
- وتَرْكُ مكَّةَ أَو غيرِهَا إِلَى المدينةِ سُمِّيَ هِجرةً.
- وتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْه وزَجَرَ سُمِّيَ هجرةً كَذَلِكَ.
فبَيَّنَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ: أنَّ الهجرةَ تَخْتَلِفُ باختلافِ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ.
فمَنْ هاجرَ حُبًّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ولرسولِهِ، ورَغبةً فِي التَّفقُّهِ فِي دينِهِ وإظهارِهِ حَيْثُ كَانَ يَعْجَزُ عَن ذَلِكَ فِي دِيَارِ الكُفرِ، فهذا هُو المهاجرُ لِلَّهِ ولرسولِهِ بحقٍّ.
ومَنْ كَانَ مَقْصِدُ هجرتِهِ حُظوظَ الدُّنيَا، وشهواتِها مِن: نساءٍ، ومالٍ، وجاهٍ، وَغَيْرِ ذَلِك، فحظُّهُ مِن هِجرتِهِ الدُّنيَا وحُظوظُهَا الفانيَةُ.
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِلَى مـَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) فِيهِ تحقيرٌ واستهانةٌ لِمَا طَلبَهُ مِن الدُّنيا، حَيْثُ لَم يَذْكُرْهُ بلفظٍ.
ويُقاسُ عَلَى الهجرةِ سَائِرُ الأعمالِ مِن: حَجٍّ، وعُمرةٍ، وجِهادٍ، وغيرِها، فصلاحُهَا وفسادُهَا بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا.
7- كَلامُ الْعُلَمَاءِ حولَ النِّيَّةِ يَقعُ فِي وجهينِ:
أ- تَمَيُّزِ العباداتِ عَن العاداتِ، فالإمساكُ عَن الأَكْلِ:
- يَكُونُ حِمْيَةً للتَّطْبِيبِ.
- وَقَد يَكُونُ لعَدَمِ القُدرةِ عَلَى الأَكْلِ.
- وَقَدْ يَكُونُ تَرْكًا للشهواتِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
فالصَّومُ يَحتاجُ إِلَى نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ عَنْ غيرِهِ.
وَكَذَلِك غُسْلُ الْجَنابةِ بحاجةٍ إِلَى نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ مِن غُسْلِ التَّبرُّدِ والنَّظافةِ.
تَتميَّزُ العِباداتُ عَن بعضِهَا البعضُ، فالصَّلاةُ بحاجةٍ إِلَى نيَّةٍ حتَّى تَتميَّزَ عَن غيرِهَا مِن النَّافلةِ.
والصِّيامُ مِنْه الفرضُ، الفرضُ مِنْه: صومُ رمضانَ، والنَّذْرُ، والكفَّاراتُ.
ومنه النَّافلةُ: كصومِ يومِ عَرَفَةَ، وعاشوراءَ، وصومِ الاثنينِ والخميسِ.
فَلا بُدَّ مِن نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ كلُّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ.
والصَّدقةُ مِنْهَا: الفرضُ، والكفَّاراتُ، والنَّافلةُ، وَكَذَلِك لا بُدَّ مِن نِيَّةٍ حتَّى تَتميَّزَ.
ب- تَميُّزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ، هَل هُو اللَّهُ عزَّ وجلَّ وحدَهُ، أَمْ مَعَه غيرُهُ؟
وَهَذِه النِّيَّةُ الَّتي خاضَ بِهَا عُلَمَاءُ السُّلوكِ، لِذَلِك صنَّفَ أَبُو بكرِ بْنُ أَبِي الدُّنيا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: (كِتَابَ الإخلاصِ والنِّيَّةِ).
تعريفُ النِّيَّةِ:
أ- فِي اللغةِ: استخدَمَ العربُ النِّيَّةَ بِمَعْنَى: القَصْدِ.
لِذَلِكَ يقولونَ: نوَى الشَّيءَ يَنويهِ نيَّةً ونِيَةً، وانْتَواهُ: قَصَدَهُ ونوَى الْمَنْزِلَ، وانْتَوَاهُ كذلِكَ.
ويقولونَ: نواكَ اللَّهُ بالخيرِ: قصدَكَ بِهِ وأَوْصَلَكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ أعرابيٌّ مِن بني سُلَيْمٍ لابنٍ لَه سمَّاهُ (إبراهيمَ): نَاوَيـْتُ بِه إبراهيمَ، أَيْ: قَصَدْتُ قَصْدَهُ، فَتَبَرَّكْتُ باسمِهِ.
- استُخْدِمَت النِّيَّةُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الشَّيءِ الْمَقْصُودِ إِلَيْهِ (والنـِّيـَّةُ الْوَجْهُ الَّذِي يُذهَبُ فِيهِ)، وَقَدْ يُرادُ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُصاحِبُهُ القصدُ أَو يَسْبِقُهُ.
- وكذلك استُخدِمَت النِّيَّةُبِمَعْنَى:العَزْمِ.
- يَقُولُ صَاحِبُ (الْمِصْبَاحِ الْمُنيرِ): (خـُصـَّت النـِّيـَّةُ فِي غالبِ الاستعمالِ بعَزْمِ القلبِ عَلَى أَمَرٍ مِن الأُمُورِ).
- وَكَذَلِك: فِي (لسانِ العربِ): (نوَيـْتُ نيَّةً ونواةً: أَيْ عَزَمْتُ، وانتويْتُ مثلَهُ).
ب- فِي الشَّرْعِ: لَم يضَعِ الشَّرعُ للنِّيَّةِ تعريفًا خاصًّا بِهَا، ومَنْ وَضَعَ لَهَا تعريفًا خاصًّا بِهَا يَخْتَلِفُ عَن معناها اللغويِّ لَم تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ قويَّةٌ يُسْتَنَدُ عَلَيْهَا، كَمَا بَيَّنَ ذَلِك الدُّكتورُ عمرُ الأشْقَرُ.
لذلك ذهبَ جَمْعٌ مِن الْعُلَمَاءِ إِلَى تعريفِها بِمَدْلولِها اللغويِّ :
منهُم: النَّوويُّ رحمَهُ اللَّهُ قَالَ: (النـِّيـَّةُ هِي: القصدُ إِلَى الشَّيءِ، والعزيمةُ عَلَى فعلِهِ، ومنه قَوْلُ الجاهليَّةِ: نواكَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، أَيْ: قَصَدَكَ بِهِ).
ومنهم: الْقَرَافِيُّ قَالَ رحمهُ اللَّهُ: (هِي قَصْدُ الإِنْسَانِ بقلبِهِ مَا يُريدُهُ بفعلِهِ).
ومنهم: الْخَطَّابِيُّ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ: (النـِّيـَّةُ: قَصْدُكَ الشَّيءَ بقلبِكَ، وتَحَرِّي الطَّلبِ منكَ لَهُ، وقِيلَ: عزيمةُ القلبِ).
قالَ الدُّكتورُ عمرُ الأشقرُ: (وتعريفُ النِّيَّةِ بالقَصْدِ والعَزْمِ مَذْهَبٌ قويٌّ يَدُلُّ عَلَى مدلولِ الْكَلِمَةِ فِي لغةِ العربِ).
ومنهُمْ: مَن عرَّفَها (بالإخلاصِ)كَمَا قَالَ بعضُهموإخلاصُ الدِّينِ هُو النِّيَّةُ)؛ لأنَّ النِّيَّةَ تُطْلَقُ:
- ويُرادُ بِهَا قَصْدُ العِبادةِ.
- ويُرادُ بِهَا قَصْدُ المعبودِ ، وَهَذَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللغةُ كَمَا قَدَّمْتُ آنِفًا.
العَزْمُ والقصدُ والفارقُ بينَهُمَا:
فالعزمُ: بالفعلِ الْمُستَقْبَلِ، والقصدُ: بالفعلِ الْحَاضِرِ الْمُتحقِّقِ.
وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ إمامُ الحرمينِ رحمهُ اللَّهُ: (النـِّيـَّةُ إِنْ تَعلَّقتْ بفعلٍ مُستقبَلٍ فَهِي: عَزْمٌ، وَإِن تَعلَّقتْ بفِعْلٍ حاضرٍ سُمِّيَتْ: قَصْدًا تَحقيقًا).
أمَّا العلامةُ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللَّهُ فيَرَى أنَّ النِّيَّةَ هِي: القَصْدُ بعينِهِ، إِلا أنَّ هُنَاك فرقًا بينَهما:
1- القصدُ عندَهُ: معلَّقٌ بفعلِ الفاعلِ نفسِهِ وبفعلِ غيرِهِ.
والنِّيَّةُ: متعلِّقَةٌ بفعلِ الفاعلِ نفسِهِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ القصدُ عِنْدَهُ أعمَّ مِن النِّيَّةِ.
2- القصدُ:يَكُونُ بِمَا هُو مقدورٌ عَلَى تحقيقِهِ.
والنِّيَّةُ:بِمَا هُو مقدورٌ وَغَيْرُ مقدورٍ عَلَى تحقيقِهِ.
وبناءً عَلَى هَذَا تَكُونُ النِّيَّةُ عندَهُ مِن هَذَا الْحَدِيثِ أعمَّ مِن الْقَصْدِ.
حكْمُ التَّلفُّظِ بالنِّيَّةِ:
الْجَهْرُ بالنِّيَّةِ بِدْعةٌ مُنْكَرَةٌ ؛ لأنَّهُ لَم يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشروعِيَّتِها.
وممَّا هُو مَعْلُومٌ أنَّ الأَصْلَ فِي العباداتِ التَّحريمُ ، وَلا تَثْبُتُ العِبادةُ إِلا بِنَصٍّ.
قالَ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الرَّبيعِ سليمانُ بْنُ عمرَ الشافعيُّ: (الجهرُ بالنِّيَّةِ وبالقراءةِ خلفَ الإمامِ لَيْسَ مِن السُّنَّةِ، بَل مَكروهٌ، فَإِنْ حَصَلَ بِه تَشويشٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ فحرامٌ، ومَنْ قَالَ بأنَّ الْجَهْرَ بلفظِ النِّيَّةِ مِنَ السُّنَّةِ فَهُو مُخْطِئٌ، وَلا يَحِلُّ لَه وَلا لغيرِهِ أَنْ يَقُولَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وقالَ الشَّيخُ عَلاءُ الدِّينِ العَطَّارُورَفْعُ الصَّوتِ بالنِّيَّةِ مَعَ التَّشويشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ حرامٌ إجماعًا، وَمَعَ عَدَمِهِ بِدعةٌ قبيحةٌ، فَإِنْ قُصِدَ بِه الرِّيَاءُ كَانَ حرامًا مِن وجهينِ، وكبيرةً مِن الكبائرِ، والْمُنْكِرُ عَلَى مَن قَالَ بأنَّ ذَلِكَ مِن السُّنَّةِ مُصيبٌ، ومُصَوِّبُهُ مُخْطِئٌ، ونِسبَتُهُ إِلَى دِينِ اللَّهِ اعتقادًا كُفْرٌ، وَغَيْرَ اعتقادٍ مَعْصِيَةٌ، ويَجِبُ عَلَى كلِّ مُؤْمِنٍ تَمَكَّنَ مِن زجرِهِ؛ زَجْرُهُ ومَنْعُهُ ورَدْعُهُ، وَلَم يُنقَلْ هَذَا النقلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا عَن أَحَدٍ مِن أصحابِهِ، وَلا عَن أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِه مِن عُلَمَاءِ الإِسْلامِ).
وبذلك أفتَى العلامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ الحريريِّ الأنصاريُّ، وابنُ رجبٍ، وغيرُهُم.
ممَّا تقدَّمَ نَخْلُصُ أنَّ: الجهرَ بالنِّيَّةِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ بعيدةٌ عَن هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَثَرُ النِّيَّةِ الصالحةِ عَلَى الْمُباحاتِ:
يُعَرِّفُ عُلماءُ الأصولِ المباحَ بالآتي: هُو الَّذِي لا يُثابُ فاعلُهُ وَلا يعاقَبُ تارِكُهُ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ وتَرْكُهُ سِيَّيْنِ.
ولكنَّ المباحَ إِذَا خالطَتْهُ النِّيَّةُ الصَّالحةُ يَكُونُ بِذَلِك قربةً ويُثابُ فاعلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
- فمَنْ أكلَ أَو شرِبَ ونوَى التَّقَوِّيَ عَلَى طاعةِ اللَّهِ ورسولِهِ يُثابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ.
- وَكَذَلِكَ مَنْ نوَى بكسبِهِ كفَّ وجهِهِ عَن المسألةِ والإنفاقَ عَلَى نفسِهِ وعيالِهِ، وَهَكَذَا.
ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بِهَذَا جمعٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ:
مِنْهُمْ: ابنُ قيِّمِ الجوزيَّةِ ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ: (إنَّ خواصَّ المقرَّبينَ هُمُ الَّذِين انقلبَت المباحاتُ فِي حقِّهم إِلَى طاعاتٍ وقرباتٍ بالنِّيَّةِ، فليسَ فِي حقِّهِم مباحٌ متساوِي الطَّرَفينِ، بَلْ كلُّ أعمالِهِم راجحةٌ).
ومنهم: ابنُ الحاجِّ المالكيُّ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَىالمباحُ ينتقلُ بالنِّيَّةِ إِلَى النَّدبِ، وَإِن استطعْنَا أَنْ ننويَ بالفعلِ نيَّةَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ نيَّةِ النَّدبِ، للحديثِ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ))).
ومنهم: العلامةُ النَّوويُّ قَالَ رحمَهُ اللَّهُ مُعَقِّبًا عَلَى الْحَدِيثِ الْخَامِسِ والعشرينَ مِن أَربعينِهِ: (وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ المباحاتِ تَصيرُ طاعاتٍ بالنِّيَّاتِ الصَّالحاتِ، فالْجِماعُ يَكُونُ عِبادةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضاءَ حقِّ الزَّوجةِ ومُعاشرَتَها بالمعروفِ الَّذي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، أَو طَلَبَ وَلَدٍ صالحٍ، أَو إعفافَ نفسِهِ، أَو إعفافَ الزَّوجةِ ومَنْعَهُما جَميعًا مِن النَّظرِ إِلَى الحرامِ، أَو الفِكْرِ فِيهِ، أَو الْهَمِّ بِهِ، أَو غَيْرِ ذلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ).
ويَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ الأجلاءُ عَلَيْهِم سحائبُ الرَّحمةِ:
1- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: ((إِنـَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ)).
- قَالَ النَّوويُّ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: (وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فمِ الزَّوجةِ يَقَعُ غالبًا فِي حَالِ الْمُدَاعَبَةِ، ولِشَهْوَةِ النَّفسِ فِي ذَلِك مَدْخَلٌ ظاهِرٌ، وَمَعَ ذلِكَ إِذَا وَجَّهَ القَصْدَ فِي تِلْك الْحَالِ إِلَى ابتغاءِ الثَّوابِ حَصَلَ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ).
- وقالَ السَّيوطيُّ: (ومِن أَحْسَنِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أنَّ الْعَبْدَ يَنالُ أَجْرًا بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ فِي المباحاتِ والعاداتِ، قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))، فهذه يُـثَابُ فاعلُها إِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقرُّبَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ لَم يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلا ثَوابَ لَهُ...).
2- وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)).
قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهْوتَهُ وَيَكُونُ لَه أَجْرٌ ؟
قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَلَيْسَ كَانَ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ لَهُ أَجْرٌ)).
ضوابطُ تحويلِ الْمُباحِ إِلَى قُرْبَةٍ:
1- لا يَجوزُ أَنْ تُتَّخَذَ المباحاتُ قُرْبةً فِي صورتِها وذاتِها، كمَنْ يَظُنُّ أنَّ الْمَشيَ أَو الأَكْلَ أَو الوقوفَ أَو اللِّبَاسَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ فِي ذاتِهِ، لِذَلِك أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي إسرائيلَ عندَما رآهُ قائمًا فِي الشَّمسِ، فسألَ عَن سَبَبِ وُقوفِهِ فَقِيلَ لَهُ: (هَذَا أَبُو إسرائيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ ويَصُومَ).
قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)).
2- أَنْ يَكُونَ الْمُباحُ وَسِيلَةً إِلَى العِبادةِ: قالَ ابنُ الشَّاطِ: (إِذَا قـُصِدَ بالمباحاتِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعاتِ، أَو التَّوصُّلُ إِلَيْهَا كَانَتْ عِبادةً، كالأكلِ والنَّومِ واكتسابِ المالِ...).
ويَرَى العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ أنَّ المسلِمَ يُثابُ فِي هَذِه الْحَالَةِ عَلَى القَصْدِ دُونَ الفعلِ.
وقالَ ابنُ تَيميَّةَ: (يَنبغِي ألا يَفعلَ مِن المباحاتِ إِلا مَا يَستعينُ بِهِ عَلَى الطَّاعةِ، ويَقْصِدُ الاستعانةَ بِهَا عَلَى الطَّاعةِ).
3- أَنْ يَكُونَ الأَخْذُ بِهِ عَلَى أنَّهُ تشريعٌ إلهيٌّ: يَنبغِي للمسلِمِ أَنْ يَأْخُذَ
المباحَ مُعتقِدًا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أباحَهُ لَه، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى رُخَصُهُ، كَمَا تُؤتَى عزائمُهُ، كَمَا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لا يَرْضَى بالتَّرَهْبُنِ، والغلوِّ والتَّشدُّدِ.
وَعَلَى هَذَا يُظهِرُ المسلمُ عُبوديَّتَهُ لربِّهِ، فَهُو يَسيرُ وَفْقَ نظامٍ متكاملٍ، فالحلالُ مَا أحلَّ اللَّهُ، والحرامُ مَا حرَّمَ، والمباحُ مَا أباحَهُ، فالَّذي يَنْظُرُ للمباحِ عَلَى هَذَا الأساسِ يُثابُ، إِنْ شاءَ اللَّهُ.
4- أَنْ يَكُونَ المباحُ مباحًا بالجزءِ، ولكنَّهُ مَطْلُوبٌ بالكلِّ، سَوَاءٌ عَلَى النَّدبِ أَو الْوُجُوبِ.
فمَثَلاً يُباحُ للعبدِ أَنْ يَتْرُكَ الطَّعامَ والشَّرابَ أحيانًا، ويُجْهِدُ نفسَهُ بذلِكَ، وَلَكِنْ لا يَجوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى فِي ذَلِك حتَّى يُهْلِكَ نفسَهُ، ففي هَذِه الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ بِمَا يُنْقِذُ بِهِ نفسَهُ، وَإِذَا لَم يَفعلْ يَستوجِبُ الوَعيدَ فِي ذلِكَ.
ولو قُدِّرَ للنَّاسِ أَنِ امتنعُوا عَن الزَّواجِ، والتِّجارةِ، والزِّراعةِ، والصِّناعةِ، يُعَدُّونَ بِذَلِك آثمينَ؛ لأنَّ هَذِه الأَشْيَاءَ مطلوبةٌ بالكلِّ.
مِنْ فوائدِ الْحَدِيثِ:
1- فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ النِّيَّةَ مِن الإيمانِ؛ لأنَّهَا عملُ القلبِ، وَالإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: تصديقٌ بالْجَنَانِ، ونُطْقٌ باللسانِ، وعملٌ بالأركانِ.
لِذَلِك ساقَ الإمامُ البخاريُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الإيمانِ.
2- كَمَا فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُ يَجِبُ عَلَى المسلمِ قَبْلَ القُدومِ عَلَى الْعَمَلِ أَنْ يَعْرِفَ حُكْمَهُ: هَل هُو مشروعٌ أَمْ لا ؟ هَل هُو واجبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ ؟ لأنَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْعَمَلُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا إِذَا خلا مِنَ النِّيَّةِ المشروعةِ فِيهِ.
3- والحديثُ يَدُلُّ عَلَى اشتراطِ النِّيَّةِ فِي أعمالِ الطَّاعاتِ، وأنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الأعمالِ بدونِهَا غَيْرُ مُعتَدٍّ بِهِ.
***********************************************************************************************
[size=18]الحمدُ للَّهِ الَّذي أكْمَلَ لنَا الدِّينَ، وأَتَمَّ علينا النِّعْمَةَ، وجَعَلَ أُمَّتَنَا -وللَّهِ الحمدُ- خَيْرَ أُمَّةٍ، وبَعَثَ فِينا رَسولاً منَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آياتِهِ، ويُزَكِّينَا ويُعَلِّمُنَا الكِتَابَ والحِكْمَةَ، أَحْمَدُهُ على نِعَمِهِ الجَمَّةِ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً تكونُ لِمَن اعْتَصَمَ بها خَيْرَ عِصْمَةٍ.
وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، أرْسَلَهُ للعالَمِينَ رَحْمَةً، وفَوَّضَ إليهِ بيانَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنا، فأَوْضَحَ لَنا كُلَّ الأمورِ المُهِمَّةِ، وخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، فَرُبَّما جَمَعَ أَشْتَاتَ الْحِكَمِ والعُلومِ في كَلِمَةٍ، أوْ في شَطْرِ كَلِمَةٍ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ صلاةً تكونُ لنا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجَوَامِعِ الكَلِمِ، وخَصَّهُ ببَدَائِعِ الْحِكَمِ، كما في (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ)).
قالَ الزُّهْرِيُّ: (جَوَامِعُ الكَلِمِ -فِيمَا بَلَغَنَا- أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الأُمورَ الكثيرةَ التي كانَتْ تُكْتَبُ في الكُتُبِ قبلَهُ في الأمْرِ الوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ).
- وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالمُوَدِّعِ، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ -قالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ))وذَكَرَ الحديثَ.
- وخرَّجَ أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ مِنْ حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا)).
- وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا)).
- ورُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ إسحاقَ القُرَشِيِّ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي موسَى قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ)).
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ).
- وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ سعيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى، عنْ أبِيهِ، عنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَن البِتْعِ وَالمِزْرِ، قَالَ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ، فَقَالَ: ((أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ)).
ورَوَى هشامُ بنُ عمَّارٍ في كتابِ (المَبْعَثِ) بإسنادِهِ عنْ أبي سلامٍ الْحَبَشِيِّ قالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ، وَلا فَخْرَ))، فذَكَرَ مِنها قَالَ: ((وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا بِاللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1].
فجوامِعُ الكَلَمِ التي خُصَّ بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ:
أحَدُهُمَا: ما هوَ في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
قالَ الحَسَنُ: (لمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الآيَةُ خَيْرًا إلا أَمَرَتْ بِهِ، وَلا شَرًّا إِلا نَهَتْ عَنْهُ).
والثَّاني: ما هوَ في كلامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُنْتَشِرٌ موجودٌ في السُّنَنِ المأثورَةِ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقدْ جَمَعَ العُلَمَاءُ جُمُوعًا منْ كَلِمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامِعَةِ.
- فصنَّفَ الحافِظُ أبو بكرِ بنُ السُّنِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الإيجازُ وجوامِعُ الكَلِمِ مِن السُّنَنِ المأْثُورَةِ).
- وجَمَعَ القاضِي أبو عبدِ اللَّهِ القُضَاعِيُّ مِنْ جوامِعِ الكَلِمِ الوَجِيزَةِ كِتابًا سمَّاهُ: (الشِّهَابُ في الحِكَمِ والآدَابِ)، وصنَّفَ عَلَى مِنْوَالِهِ قَوْمٌ آخرونَ، فزادُوا على ما ذَكَرَهُ زيادَةً كثيرةً.
- وأشارَ الخَطَّابِيُّ في أوَّلِ كتابِهِ (غريبِ الحديثِ) إلى يَسِيرٍ من الأحاديثِ الجامِعَةِ.
- وأمْلَى الإمامُ الحافِظُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ (الأحاديثَ الكُلِّيَّةَ)، جَمَعَ فيهِ الأحادِيثَ الجوامِعَ الَّتي يُقالُ: إِنَّ مَدارَ الدِّينِ عليها، وما كانَ في معْنَاهَا مِن الكلماتِ الجامِعَةِ الوجيزةِ، فاشْتَمَلَ مجلِسُهُ هذا على سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حديثًا.
ثمَّ إنَّ الفَقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَخَذَ هذهِ الأحاديثَ التي أَمْلاها ابنُ الصَّلاحِ وزَادَ عليها تَمَامَ اثنيْنِ وأربعينَ حَدِيثًا، وسَمَّى كتابَهُ (بالأرْبَعِينَ).
واشْتُهِرَتْ هذهِ الأربعونَ التي جَمَعَها، وَكَثُرَ حِفْظُها، ونَفَعَ اللَّهُ بهَا بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جامِعِها وحُسْنِ قَصْدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقدْ تَكَرَّرَ سؤالُ جماعةٍ منْ طَلَبَةِ العِلْمِ والدِّينِ لتعليقِ شَرْحٍ لهذِهِ الأحاديثِ المُشارِ إليها، فاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سبحَانَهُ وتعالَى في جَمْعِ كتابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ ما يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تعالَى مِنْ مَعَانِيها، وتَقْييدَ ما يَفْتَحُ بِهِ سُبْحانَهُ منْ تَبْيِينِ قواعِدِها وَمَبَانِيهَا.
وإيَّاهُ أَسألُ العَوْنَ على ما قَصَدْتُ، والتَّوْفِيقَ لصلاحِ النِّيَّةِ والقَصْدِ فيما أَرَدْتُ، وَأُعَوِّلُ في أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ، وأَبْرَأُ مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إِلا إِليهِ.
وقدْ كانَ بعضُ مَنْ شَرَحَ هذِهِ الأربعينَ قدْ تَعَقَّبَ على جامِعِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكَهُ لحديثِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))، قالَ: (لأنَّهُ جامِعٌ لقواعِدِ الفرائِضِ التي هيَ نِصْفُ العِلْمِ، فكانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ في هذهِ الأحاديثِ الجامِعَةِ).
كما ذَكَرَ حديثَ: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ))؛ لجَمْعِهِ لأحكامِ القَضَاءِ.
فرأيتُ أنا أنْ أَضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعينَ التي جَمَعَهَا الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنْ أَضُمَّ إلى ذلكَ كُلِّهِ أحاديثَ أُخَرَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الجَامِعَةِ لأنواعِ العُلومِ والحِكَمِ؛ حتَّى تَكْمُلَ عِدَّةُ الأحاديثِ كُلِّها خمسينَ حديثًا.
وهذِهِ تسميَةُ الأحاديثِ المَزِيدَةِ على ما ذَكَرَهُ الشيخُ رحِمَهُ اللَّهُ في كتابِهِ:
- حديثُ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا)).
- حديثُ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).
- حديثُ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).
- حديثُ(كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
- حديثُ: ((مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)).
- حديثُ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا)).
- حديثُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ)).
- حديثُ: ((لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وسَمَّيْتُهُجَامِعَ العُلُومِ والحِكَمِ في شَرْحِ خمسينَ حديثًا منْ جوامِعِ الكَلِمِ).
واعْلَمْ أنَّهُ ليسَ غَرَضِي إلا شْرْحُ الألفاظِ النَّبَوِيَّةِ التي تَضَمَّنَتْهَا هذِهِ الأحاديثُ الكُلِّيَّةُ؛ فلذلكَ لا أَتَقَيَّدُ بألفاظِ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَرَاجِمِ رُوَاةِ هذِهِ الأحاديثِ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ولا بألْفَاظِهِ في العَزْوِ إلى الكُتُبِ التي يَعْزُو إليها، وإنَّما آتِي بالمَعْنَى الذي يَدُلُّ على ذلكَ؛ لأَنِّي قدْ أَعْلَمْتُكَ أنَّهُ ليسَ لي غَرَضٌ إلا في شَرْحِ معاني كلماتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجوامِعِ، وما تَضَمَّنَتْهُ مِن الآدَابِ وَالحِكَمِ وَالمَعَارِفِ وَالأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ.
وأُشِيرُ إشارةً لطيفَةً قبلَ الكلامِ في شرحِ الحديثِ إلى إسنادِهِ ؛ لِيُعْلَمَ بذلكَ صِحَّتُهُ وقُوَّتُهُ وضَعْفُهُ.
وأَذْكُرُ بعضَ ما رُوِيَ في معناهُ من الأحاديثِ إنْ كانَ في ذلكَ البابِ شَيْءٌ غيرُ الحديثِ الذي ذَكَرَهُ الشيخُ، وإنْ لمْ يكُنْ في البابِ غَيْرُهُ، أوْ لمْ يَكُنْ يَصِحُّ فيهِ غَيْرُهُ، نَبَّهْتُ على ذلكَ كُلِّهِ.
وباللَّهِ المُسْتَعَانُ، وعليهِ التُّكْلانُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ.
***
(1) هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بروايَتِهِ يَحْيَى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ عنْ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
وليسَ لَهُ طريقٌ تَصِحُّ غيرُ هذِهِ الطريقِ ، كذا قالَهُ عليُّ بنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ.
وقالَ الخَطَّابِيُّ: (لا أَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ الحديثِ في ذَلِكَ)، معَ أنَّهُ قدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ وغيرِهِ.
وقدْ قيلَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ، لكنْ لا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شيءٌ عندَ الحُفَّاظِ.
ثمَّ رَوَاهُ عن الأنصاريِّ الخَلْقُ الكثيرُ والجَمُّ الغفيرُ.
فقيلَ: رَوَاهُ عنهُ أكثرُ مِنْ مِائَتَيْ راوٍ.
وقيلَ: رَواهُ عنهُ سبعُمِائَةِ راوٍ، ومِنْ أعيانِهم: مالِكٌ، والثَّورِيُّ، والأَوْزَاعِيُّ، وابنُ المُبَارَكِ، واللَّيثُ بنُ سَعْدٍ، وحمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وشُعْبَةُ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وغَيْرُهم.
واتَّفَقَ العُلماءُ على صِحَّتِهِ وتَلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وبِهِ صَدَّرَ البُخَارِيُّ كِتَابَهُ (الصَّحيحَ)، وأَقَامَهُ مقامَ الخُطْبَةِ لَهُ؛ إشارةً مِنهُ إلى أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يُرادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فهوَ باطلٌ، لا ثَمَرَةَ لهُ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ؛ ولهذا: قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: (لوْ صنَّفْتُ الأبوابَ لجَعَلْتُ حديثَ عُمَرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلِّ بابٍ).
وعنهُ أنَّهُ قالَ: (مَنْ أرادَ أنْ يُصَنِّفَ كتابًا فلْيَبْدَأْ بحديثِ ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))).
وهذا الحديثُ أَحَدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها :
فَرُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: (هذا الحديثُ ثُلُثُ العِلْمِ، ويَدْخُلُ في سبعينَ بابًا مِن الفِقْهِ).
وعَن الإِمامِ أحمدَ قالَأُصُولُ الإِسلامِ على ثلاثةِ أحاديثَ:
- حديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
- وحديثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))
وقالَالحاكِمُ: (حَدَّثُونَا عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ، عنْ أبيهِ، أنَّهُ ذَكَرَ قولَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ(الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وقولَهُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).
وقولَهُ(مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
فقالَ: يَنْبَغِي أنْ يُبْدَأَ بهذِهِ الأحاديثِ في كُلِّ تَصْنِيفٍ؛ فإنَّها أُصُولُ الحديثِ).
وعن ْ إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ قالَ: (أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ هيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ:
- حديثُ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
- وحديثُ: ((مَنْ صَنَعَ فِي أَمْرِنَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))).
ورَوَى عثمانُ بنُ سعيدٍ عنْ أبي عُبَيْدٍ قالَ: (جَمَعَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الآخِرَةِ في كَلِمَةٍ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وجَمَعَ أمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ في كَلِمَةٍ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، يدْخُلانِ في كلِّ بابٍ).
وعنْ أبي دَاودَ قالَ: (نَظَرْتُ في الحديثِ المُسْنَدِ، فإذا هوَ أَرْبَعَةُ آلافِ حديثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذا مَدَارُ الأربَعَةِ آلافِ حديثٍ على أربعةِ أحاديثَ:
- حديثِ النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ(الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثِ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ أبي هُريرةَ: ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)) الحديثَ.
- وحديثِ(مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
قالَ: فَكُلُّ حديثٍ مِنْ هذِهِ رُبْعُ العِلْمِ).
وعنْ أبي دَاودَ أيضًا قالَ: (كَتَبْتُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَديثٍ، انْتَخَبْتُ مِنها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكِتَابَ -يَعْنِي كِتَابَ (السُّنَنِ)- جَمَعْتُ فيهِ أربعةَ آلافٍ وثَمَانَمِائَةِ حديثٍ، ويَكْفِي الإِنسانَ لدينِهِ مِنْ ذَلِكَ أربعةُ أحاديثَ:
أحدُها:قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
والثَّاني: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
والثالِثُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَكُونُ الْمُؤمِنُ مُؤْمِنًا حتَّى لا يَرْضَى لأَِخِيهِ إِلا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ)).
والرَّابِعُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))).
وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنهُ، أنَّهُ قالَ: (الفِقْهُ يَدُورُ على خَمْسَةِ أحاديثَ:
((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بيِّنٌ)). وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ، وَلا ضِرَارَ)). وقولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). وقولِهِ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).
وقولِهِ: ((وَمَا نَهْيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمْرتُكُمْ بِهِ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))).
وفي روايَةٍ عنهُ قالَ: (أُصُولُ السُّنَنِ في كُلِّ فَنٍّ أربَعَةُ أحاديثَ:
- حديثُ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
- وحديثُ(ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ))).
وللحافِظِ أبي الحَسَنِ طاهِرِ بنِ مُفَوِّزٍ المَعَافِرِيِّ الأنْدُلُسِيِّ:
عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبعٌ = مِنْ كلامِ خـَيـْرِ البـَرِيَّهْ
اتَّقِ الـشُّبـُهَاتِ وازْهَدْ وَدَعْ = مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وفي روايَةٍ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وكلاهُمَا يَقْتَضِي الحَصْرَ على الصَّحيحِ ، وليسَ غَرَضُنا هَا هُنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ، ولا بَسْطَ القَوْلِ فيهِ.
وقد اخْتُلِفَ في تقديرِ قولِهِ(الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)): فكثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ
يَزعُمُ أنَّ تقديرَهُ: الأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أوْ مُعْتَبَرَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ بالنِّيَّاتِ.
وعلى هذا، فالأعمالُ إنَّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرْعِيَّةُ المُفْتَقِرةُ إلى النِّيَّةِ.
فأمَّا ما لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ كالعاداتِ مِن الأكلِ والشُّرْبِ واللُّبْسِ وغيرِها، أوْ مثلِ رَدِّ الأماناتِ والمَضْمُونَاتِ، كالودائِعِ والغُصُوبِ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ، فيُخَصُّ هذا كُلُّهُ مِنْ عُمُومِ الأعمالِ المذكَورَةِ هَا هُنا.
وقال آخرونَ: بل الأعمالُ هنا على عُمُومِهَا، لا يُخَصُّ منها شيءٌ.
وَحَكَاهُ بَعْضُهم عن الجمهورِ، وكأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ جُمْهُورَ المُتَقَدِّمِينَ.
وقدْ وَقَعَ ذَلِكَ في كلامِ ابنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ وأبي طالِبٍ المَكِّيِّ وغيرِهِمَا مِن المُتَقَدِّمِين، وهوَ ظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أَحْمَدَ.
قالَ في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: (أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً مِنْ صلاةٍ، أوْ صيامٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ، أنْ تكونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً في ذَلِكَ قبلَ الفِعْلِ؛ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، فهذا يَأْتِي على كُلِّ أمْرٍ مِن الأُمورِ).
وقال الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: سأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ -يَعْنِي أحمدَ- عَن النِّيَّةِ في العَمَلِ، قلتُ: كيفَ النِّيَّةُ؟ قالَ: (يُعالِجُ نفسَهُ إذا أرادَ عَمَلاً لا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ).
وقالَ أحمدُ بنُ داودَ الحَرْبِيُّ: حَدَّثَ يزيدُ بنُ هارونَ بحديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وأحمدُ جالِسٌ، فقالَ أحمدُ ليَزيدَ: (يا أَبَا خَالِدٍ، هذا الْخِنَاقُ).
وعلى هذا القولِ: فقيلَ: تقديرُ الكلامِ : الأعمالُ واقِعَةٌ أوْ حاصِلَةٌ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إِخبارًا عن الأعمالِ الاخْتِيَارِيَّةِ أنَّها لا تَقَعُ إلا عَنْ قصْدٍ مِن العامِلِ هوَ سَبَبُ عمَلِها ووُجُودِها، ويكونُ قولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))، إِخبارًا عنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وهوَ أنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نِيَّتُهُ، فإنْ كانَتْ صالِحَةً فعَمَلُهُ صالِحٌ، فَلَهُ أجرُهُ، وإنْ كانَت فاسِدَةً فعَمَلُهُ فاسِدٌ، فعليهِ وِزْرُهُ.
ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ التَّقديرُ في قولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))الأعمالُ صالِحَةٌ، أوْ فاسِدَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ، أوْ مَرْدُودَةٌ، أوْ مُثَابٌ عليها، أوْ غيرُ مُثَابٍ عليها، بالنِّيَّاتِ، فيكونُ خَبَرًا عنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وهوَ أنَّ صلاحَ الأعمالِ وفسا
هذا الْحَدِيثُ مِن جَوامعِ كَلِمهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ عَنْهُ الإمامُ الشَّافعيُّ رحِمَهُ اللَّهُ: (حديثُ النِّيَّةِ يَدْخُلُ فِي سبعينَ بابًا مِن الفقهِ، وَمَا تَرَكَ لِمُبْطِلٍ، وَلا مُضَارٍّ، وَلا مُحتالٍ حُجَّةً إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى).
وَقَد قَالَ النَّوَوِيُّ: (لَم يُرِدِ الشَّافعيُّ رحمَهُ اللَّهُ انْحِصَارَ أبوابِهِ فِي هَذَا الْعَدَدِ، فإنَّها أَكْثَرُ مِن ذَلِكَ).
وَقَالَ الشـَّوكانيُّ رحمَهُ اللَّهُ: (وَهَذَا الْحَدِيثُ قاعدةٌ مِن قواعدِ الإِسْلامِ؛ حتَّى قِيلَ: إنَّهُ ثُلُثُ العِلْمِ).
وَقَالَ كَذلِكَوَهُو علَى انفرادِهِ حَقِيقٌ بِأَنْ يُفْرَدَ لَه مُصَنَّفٌ مُستقِلٌّ).
ومِنْ تعظيمِ العُلماءِ لِهَذَا الْحَدِيثِ رَأَوُا البَداءَةَ بِه فِي مُصنَّفَاتِهِم؛ وَذَلِكَ تَنبيهًا لطالبِ العِلْمِ إِلَى تصحِيحِهِ نيَّتَهُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحمنِ بْنُ مَهدِيٍّ: (مـَنْ أرادَ أَنْ يُصَنِّفَ كِتابًا فلْيَبْدَأْ بِهَذَا الْحَدِيثِ).
عَمِلَ بِهَذِهِ النَّصيحةِ:
- البخاريُّ رحمهُ اللَّهُ بدأَ بِهِ فِي (صحيحِهِ).
- وكذلِكَ: تقيُّ الدِّينِ المقْدِسِيُّ فِي كتابِهِ (عُمْدَةِ الأَحْكَامِ).
- وَكَذَلِكَ: السُّيوطِيُّ فِي (جامِعِهِ الصَّغِيرِ).
- والنَّووِيُّ فِي (المجموعِ).
وَقَالَ أَبُو عُبيدٍ: (لَيْسَ فِي الأَحَادِيثِ أجمعُ، وَلا أغنَى، وَلا أنفعُ، وَلا أَكْثَرُ فائدةً منْهُ).
هلِ الْحَدِيثُ سِيقَ بِسَبَبِ مُهاجرِ أُمِّ قَيْسٍ؟
ظنَّ قَوْمٌ أنَّ الْحَدِيثَ سِيقَ بِسَبَبِ رجلٍ أرادَ الزَّواجَ مِن امرأةٍ يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فهاجَرَ مِنْ أَجْلِ ذلِكَ، وَلَم يَبْتَغِ بِهِجْرَتِهِ فضيلةَ الهجرةِ، واسْتَدَلُّوا بالآتي:
- عنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (مـَنْ هاجرَ يبتغِي شيئًا فإنَّمَا لَهُ ذلِكَ، هاجَرَ رجلٌ ليتزوَّجَ امرأةً يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فَكَانَ يُقالُ لَهُ: مُهاجِرُ أمِّ قيسٍ).
ورواهُ الطَّبرانيُّ مِنْ طَرِيقٍ أُخرَى عَنِ الأَعْمَشِ بلفظِ: (كَانَ فينَا رجلٌ خَطَبَ امرأةً يُقالُ لَهَا: أمُّ قيسٍ، فأَبَتْ أَنْ تَتَزَوَّجَهُ حتَّى يُهاجِرَ، فهاجَرَ فتزوَّجَهَا، فكُنَّا نُسَمِّيهِ: مُهاجرَ أمِّ قيسٍ).
قَالَ الحافظُ: (وَهَذَا إسنادٌ صحيحٌ عَلَى شرطِ الشَّيْخينِ، لكنْ لَيْسَ فِيهِ أنَّ حديثَ الأعمالِ سِيقَ بِسَبَبِ ذَلِكَ، وَلَم أرَ فِي شَيْءٍ مِن الطُّرقِ مَا يَقْتَضِي التَّصريحَ بذلِكَ).
فائدةٌ:
وسببُ بحثِ الْعُلَمَاءِ عَنْ سَبَبِ صدورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لأنَّ هَذَا يُعِينُ علَى فَهْمِ النَّصِّ، كمَا حَرَصَ المفسِّرونَ علَى مَعْرِفةِ أسبابِ النُّزولِ.
قَالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (بَيَانُ سَبَبِ النُّزولِ طَرِيقٌ قويٌّ فِي فَهْمِ الْقُرْآنِ).
وَقَالَ ابنُ تيمِيَّةَ كذلِكَ: (مَعْرِفةُ سَبَبِ النُّزولِ تُعينُ عَلَى مَعْرِفةِ الآيَةِ؛ فإنَّ العِلْمَ بالسَّببِ عِلْمٌ بالمُسَبَّبِ).
وَكَذَلِكَ معرفةُ سَبَبِ صدورِ الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعِينٌ عَلَى فَهْمِهِ.
معنَى الْحَدِيثِ:
1 - قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّما الأَعْمَالُ)) هَذَا التـَّركيبُ يفيدُ الْحَصْرَ، وَذَلِكَ لوُجودِ (إنـَّما)حَيْثُ هِيَ مِنْ صِيَغِ الْحَصْرِ؛ ولأنَّ (الأعمالَ)جَمْعٌ مُحَلًّى باللامِ، وهذَا يُفيدُ الاستغراقَ المُستَلْزِمَ للقَصْرِ.
وهذَا فَهْمُ ابنِ عباسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي مِثْلِ هَذِهِ التَّراكيبِ، كمَا فِي: ((إِنَّـمَا الرِّبَا بِالنَّسِيئَةِ))، وَلَم يـُعارَضْ مِن قِبَلِ الصَّحابةِ فِي فَهْمِهِ لِهَذَا التَّركيبِ للحَصْرِ، وإنَّمَا عُورِضَ بدليلٍ آخَرَ يَقْتَضِي التَّحريمَ.
- قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (وَفِي ذَلِكَ اتِّفَاقٌ علَى أنَّهَا للحَصْرِ).
ومعنَى الْحَصْرِ فِيهَا:
(إِثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي المذكورِ، ونفيُهُ عمَّا عدَاهُ).
2 - تأتي (إِنَّما) فتفيدُ: - الْحَصْرَ الْمُطْلقَ.
- وتارةً تَقْتَضِي حَصْرًا مخصوصًا.
ويُفهَمُ ذَلِكَ بالقرائنِ والسِّياقِ.
فمَثَلاً: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}الظَّاهرُ مِنَ الآيَةِ: حَصْرُ مِهْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنَّذارةِ، وَالأَمْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فالرَّسولُ لا تَنْحَصِرُ مهمَّتُهُ بالنَّذارَةِ، بَلْ لَهُ أوصافٌ أخرَى، كالْبِشارةِ وغيرِهَا.
وَكَذَلِكَ: قولُهُ: ((إِنَّما أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ))، فمعناهُ: حَصْرُ البشرِيَّةِ مِن حَيْثُ الاطِّلاعُ عَلَى بَوَاطِنِ الأُمُورِ، لا فِي كلِّ شَيْءٍ.
وَكَذَلِكَ: قولُهُ جلَّ وَعَلا: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} والْحَصْرُ هُنَا مِن حَيْثُ آثارُهَا، وإلا قَد تَكُونُ سببًا إِلَى الخيراتِ، أَو يَكُونُ مِن بابِ التَّغليبِ للأكثرِ فِي الْحُكْمِ.
قالَ ابنُ دقيقِ العيدِ: (فَإِذَا وَرَدَتْ إنَّمَا فاعْتَبِرْهَا، فَإِنْ دلَّ السِّياقُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلامِ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ فقُلْ بِهِ، وَإِنْ لَم يَدُلَّ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ فاحْمِل الْحَصْرَ عَلَى الإِطْلاقِ).
وهذَا الْحُكْمُ مَعَ كلِّ أدواتِ القَصْرِ المعروفةِ.
3 - والحديثُ يَشْمَلُ جَمِيعَ أفعالِ الْجَوَارِحِ: الأفعالِ والأقوالِ؛ لأنَّ البعضَ خصَّصَ الأعمالَ بِمَا لا يَكُونُ قولاً، وَهَذَا فِيهِ بُعْدٌ، كَمَا قَالَ ابنُ دقيقِ العيد.
كَمَا أنَّ ابنَ عباسٍ يَرَى الْقَوْلَ مِن الْعَمَلِ، وَلَم يُخْرِجْهُ كَمَا أَخْرَجَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرينَ.
قَالَ ابنُ عبَّاسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ: {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا}: إنـَّهُ قَوْلُ: (لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ).
كَمَا أنَّ التَّرْكَ مِن الأعمالِ؛ لأنَّهُ عملٌ اختياريٌّ، وَهُو يَخْتَلِفُ باختلافِ النِّيَّاتِ، فَإِنْ تَرَكَ الشَّرَّ
لِلَّهِ، يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ، وَإِنْ تَرَكَ الْخَيْرَ الْوَاجِبَ بِلا عُذْرٍ فَهُو شرٌّ ويُلامُ.
ويَشهدُ لِمَا قُلْتُ قَوْلُ اللَّهِ عزَّ وجلَّ: ((إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً -إِلَى قولِهِ- وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا حَسَنَةً)).
ومفهومُهُ: إِذَا لَم يَتْرُكْ مِن أَجْلِ اللَّهِ لَم تُكتَبْ حَسَنَةً، وَإِنْ تَرَكَهَا مِن أَجْلِ الخوفِ مِن الْخَلْقِ يَأْثَمُ.وَلَكِنْ يُستَثْنَى مِن التَّرْكِ بَعْضُ الأعمالِ ، كَمَا بَيَّنَ العُلماءُ، مِثْلُ:
- إزالةِ النَّجاساتِ.
- ورَدِّ الْمَضْمُوناتِ، فإنَّها لا تَتَوَقَّفُ صحَّتُها عَلَى النِّيَّةِ، وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ الثَّوابُ فِيهَا عَلَى نيَّةِ التَّقرُّبِ.
4- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّما الأَعْمَالُ بِالنـِّيـَّاتِ)).
هُنَا لا بدَّ مِن تقديرِ المضافِ المحذوفِ، واختُلِفَ فِي تقديرِهِ:
فالَّذينَ اشْتَرَطُوا وُجوبَ النِّيَّةِ قدَّرُوهُ بصحَّةِ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ أَو مَا يُقارِبُهَا.
والَّذِينَ لَم يَشْتَرطُوا النِّيَّةَ، قدَّرُوهُ بِكَمَالِ الأعمالِ بالنِّيَّاتِ ، وَهَذَا يُرَدُّ؛ لأنَّ النِّيَّةَ شرطٌ فِي قَبولِ الْعَمَلِ، كَمَا قَالَ الصَّنعانيُّ، فالقولُ الأوَّلُ أَرْجَحُ؛ لأنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزومًا للحقيقةِ مِنَ الكمالِ، فالعملُ عَلَيْهَا أَوْلَى، وبهذا قَالَ ابنُ دقيقٍ.
5 - قولُهُ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ: ((وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى)).
مِنْ نَوَى شيئـًا يَحْصُلُ لَه، سَوَاءٌ عَمِلَهُ أَو مَنَعَهُ عَنْه مَانِعٌ يُعذَرُ بِهِ شَرْعًا.
ويَشهدُ لِذَلِكَ أحاديثُ كَثِيرَةٌ، لِمَنْ نَوَى خيرًا وَلَم يَعْمَلْهُ، مِنْهَا:
حديثُ: ((رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً وَعِلْمًا، فَهُوَ يَعْمَلُ بِعَمَلِهِ فِي مَالِهِ وَيُنْفِقُهُ فِي حَقِّهِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَمْ يُؤْتِهِ مَالاً فَهُو يَقُولُ: لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ مَالِ هَذَا عَمِلْتُ فِيهِ مِثْلَ الْعَمَلِ الَّذِي يَعْمَلُ، فَهُمَا فِي الأَجْرِ سَوَاءٌ))وكلُّ مَا لَم يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَه.
وَلَكِنْ يُستثنَى مِن ذَلِك بَعْضُ المسائلِ المعروفةِ لِمَنْ تَتَبَّعَها ، مِثْلُ مَنْ نَوَى الْحَجَّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِهِ فإنَّهُ يَنْقَلِبُ إِلَى عُمْرَةٍ.
والْخُلاصةُ كَمَا قَالَ ابنُ رجبٍ : (فالعملُ فِي نفسِهِ صلاحُهُ وفسادُهُ وإباحتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الحاملةِ عَلَيْهِ، الْمُقْتَضِيَةِ لوجودِهِ، وثوابُ العاملِ وعقابُهُ وسلامتُهُ بِحَسَبِ النِّيَّةِ الَّتي صَارَ بِهَا الْعَمَلُ صالحًا، أَو فاسدًا، أَو مُبَاحًا).
6- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَـنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)).
قَالَ ابنُ رجبٍ فِي شرحِ هَذَا باختصارٍ وبِتَدَخُّلٍ منِّي: لَمَّا ذَكرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الأعمالَ بِحَسَبِ النِّيَّاتِ، وأنَّ حظَّ العاملِ مِن عملِهِ نيتُّهُ مِن خَيْرٍ أَو شرٍّ، وهاتانِ كلمتَانِ جامعتَانِ، وقاعدَتانِ كلِّيَّتانِ، لا يَخْرُجُ عنهما شَيْءٌ، ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَثَلاً مِن الأمثالِ عَلَى الأعمالِ الَّتي صُورَتُهَا وَاحِدَةٌ ويَخْتَلِفُ صلاحُهَا وفسادُها باختلافِ النِّيَّاتِ، وكأنَّهُ يَقُولُ: سَائِرُ الأعمالِ عَلَى حَذْوِ هَذَا الْمِثالِ.
والهجرةُ حقيقتُهَا: التَّرْكُ.
والهجرةُ إِلَى الشَّيءِ: الانتقالُ إِلَيْهِ عَن غيرِهِ.
- فتَرْكُ بِلادِ الكُفْرِ إِلَى دَارِ الإِسْلامِ يُسمَّى هِجرةً وَهَذِه باقيَةٌ.
- وتَرْكُ مكَّةَ إِلَى الحبشةِ سُمِّيَ هجرةً.
- وتَرْكُ مكَّةَ أَو غيرِهَا إِلَى المدينةِ سُمِّيَ هِجرةً.
- وتَرْكُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْه وزَجَرَ سُمِّيَ هجرةً كَذَلِكَ.
فبَيَّنَ صلواتُ اللَّهِ وسلامُهُ عَلَيْهِ: أنَّ الهجرةَ تَخْتَلِفُ باختلافِ مَقَاصِدِ الْمُكَلَّفِ.
فمَنْ هاجرَ حُبًّا لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ولرسولِهِ، ورَغبةً فِي التَّفقُّهِ فِي دينِهِ وإظهارِهِ حَيْثُ كَانَ يَعْجَزُ عَن ذَلِكَ فِي دِيَارِ الكُفرِ، فهذا هُو المهاجرُ لِلَّهِ ولرسولِهِ بحقٍّ.
ومَنْ كَانَ مَقْصِدُ هجرتِهِ حُظوظَ الدُّنيَا، وشهواتِها مِن: نساءٍ، ومالٍ، وجاهٍ، وَغَيْرِ ذَلِك، فحظُّهُ مِن هِجرتِهِ الدُّنيَا وحُظوظُهَا الفانيَةُ.
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِلَى مـَا هَاجَرَ إِلَيْهِ)) فِيهِ تحقيرٌ واستهانةٌ لِمَا طَلبَهُ مِن الدُّنيا، حَيْثُ لَم يَذْكُرْهُ بلفظٍ.
ويُقاسُ عَلَى الهجرةِ سَائِرُ الأعمالِ مِن: حَجٍّ، وعُمرةٍ، وجِهادٍ، وغيرِها، فصلاحُهَا وفسادُهَا بِحَسَبِ النِّيَّةِ الْبَاعِثَةِ عَلَيْهَا.
7- كَلامُ الْعُلَمَاءِ حولَ النِّيَّةِ يَقعُ فِي وجهينِ:
أ- تَمَيُّزِ العباداتِ عَن العاداتِ، فالإمساكُ عَن الأَكْلِ:
- يَكُونُ حِمْيَةً للتَّطْبِيبِ.
- وَقَد يَكُونُ لعَدَمِ القُدرةِ عَلَى الأَكْلِ.
- وَقَدْ يَكُونُ تَرْكًا للشهواتِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ.
فالصَّومُ يَحتاجُ إِلَى نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ عَنْ غيرِهِ.
وَكَذَلِك غُسْلُ الْجَنابةِ بحاجةٍ إِلَى نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ مِن غُسْلِ التَّبرُّدِ والنَّظافةِ.
تَتميَّزُ العِباداتُ عَن بعضِهَا البعضُ، فالصَّلاةُ بحاجةٍ إِلَى نيَّةٍ حتَّى تَتميَّزَ عَن غيرِهَا مِن النَّافلةِ.
والصِّيامُ مِنْه الفرضُ، الفرضُ مِنْه: صومُ رمضانَ، والنَّذْرُ، والكفَّاراتُ.
ومنه النَّافلةُ: كصومِ يومِ عَرَفَةَ، وعاشوراءَ، وصومِ الاثنينِ والخميسِ.
فَلا بُدَّ مِن نيَّةٍ حتَّى يَتميَّزَ كلُّ نَوْعٍ عَلَى حِدَةٍ.
والصَّدقةُ مِنْهَا: الفرضُ، والكفَّاراتُ، والنَّافلةُ، وَكَذَلِك لا بُدَّ مِن نِيَّةٍ حتَّى تَتميَّزَ.
ب- تَميُّزِ الْمَقْصُودِ بِالْعَمَلِ، هَل هُو اللَّهُ عزَّ وجلَّ وحدَهُ، أَمْ مَعَه غيرُهُ؟
وَهَذِه النِّيَّةُ الَّتي خاضَ بِهَا عُلَمَاءُ السُّلوكِ، لِذَلِك صنَّفَ أَبُو بكرِ بْنُ أَبِي الدُّنيا مُصَنَّفًا سَمَّاهُ: (كِتَابَ الإخلاصِ والنِّيَّةِ).
تعريفُ النِّيَّةِ:
أ- فِي اللغةِ: استخدَمَ العربُ النِّيَّةَ بِمَعْنَى: القَصْدِ.
لِذَلِكَ يقولونَ: نوَى الشَّيءَ يَنويهِ نيَّةً ونِيَةً، وانْتَواهُ: قَصَدَهُ ونوَى الْمَنْزِلَ، وانْتَوَاهُ كذلِكَ.
ويقولونَ: نواكَ اللَّهُ بالخيرِ: قصدَكَ بِهِ وأَوْصَلَكَ إِلَيْهِ، وَقَالَ أعرابيٌّ مِن بني سُلَيْمٍ لابنٍ لَه سمَّاهُ (إبراهيمَ): نَاوَيـْتُ بِه إبراهيمَ، أَيْ: قَصَدْتُ قَصْدَهُ، فَتَبَرَّكْتُ باسمِهِ.
- استُخْدِمَت النِّيَّةُ كَذَلِكَ بِمَعْنَى الشَّيءِ الْمَقْصُودِ إِلَيْهِ (والنـِّيـَّةُ الْوَجْهُ الَّذِي يُذهَبُ فِيهِ)، وَقَدْ يُرادُ بِهَا الشَّيْءُ الَّذِي يُصاحِبُهُ القصدُ أَو يَسْبِقُهُ.
- وكذلك استُخدِمَت النِّيَّةُبِمَعْنَى:العَزْمِ.
- يَقُولُ صَاحِبُ (الْمِصْبَاحِ الْمُنيرِ): (خـُصـَّت النـِّيـَّةُ فِي غالبِ الاستعمالِ بعَزْمِ القلبِ عَلَى أَمَرٍ مِن الأُمُورِ).
- وَكَذَلِك: فِي (لسانِ العربِ): (نوَيـْتُ نيَّةً ونواةً: أَيْ عَزَمْتُ، وانتويْتُ مثلَهُ).
ب- فِي الشَّرْعِ: لَم يضَعِ الشَّرعُ للنِّيَّةِ تعريفًا خاصًّا بِهَا، ومَنْ وَضَعَ لَهَا تعريفًا خاصًّا بِهَا يَخْتَلِفُ عَن معناها اللغويِّ لَم تَكُنْ لَهُ حُجَّةٌ قويَّةٌ يُسْتَنَدُ عَلَيْهَا، كَمَا بَيَّنَ ذَلِك الدُّكتورُ عمرُ الأشْقَرُ.
لذلك ذهبَ جَمْعٌ مِن الْعُلَمَاءِ إِلَى تعريفِها بِمَدْلولِها اللغويِّ :
منهُم: النَّوويُّ رحمَهُ اللَّهُ قَالَ: (النـِّيـَّةُ هِي: القصدُ إِلَى الشَّيءِ، والعزيمةُ عَلَى فعلِهِ، ومنه قَوْلُ الجاهليَّةِ: نواكَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، أَيْ: قَصَدَكَ بِهِ).
ومنهم: الْقَرَافِيُّ قَالَ رحمهُ اللَّهُ: (هِي قَصْدُ الإِنْسَانِ بقلبِهِ مَا يُريدُهُ بفعلِهِ).
ومنهم: الْخَطَّابِيُّ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ: (النـِّيـَّةُ: قَصْدُكَ الشَّيءَ بقلبِكَ، وتَحَرِّي الطَّلبِ منكَ لَهُ، وقِيلَ: عزيمةُ القلبِ).
قالَ الدُّكتورُ عمرُ الأشقرُ: (وتعريفُ النِّيَّةِ بالقَصْدِ والعَزْمِ مَذْهَبٌ قويٌّ يَدُلُّ عَلَى مدلولِ الْكَلِمَةِ فِي لغةِ العربِ).
ومنهُمْ: مَن عرَّفَها (بالإخلاصِ)كَمَا قَالَ بعضُهموإخلاصُ الدِّينِ هُو النِّيَّةُ)؛ لأنَّ النِّيَّةَ تُطْلَقُ:
- ويُرادُ بِهَا قَصْدُ العِبادةِ.
- ويُرادُ بِهَا قَصْدُ المعبودِ ، وَهَذَا تَدُلُّ عَلَيْهِ اللغةُ كَمَا قَدَّمْتُ آنِفًا.
العَزْمُ والقصدُ والفارقُ بينَهُمَا:
فالعزمُ: بالفعلِ الْمُستَقْبَلِ، والقصدُ: بالفعلِ الْحَاضِرِ الْمُتحقِّقِ.
وَهَذَا مَا قَالَ بِهِ إمامُ الحرمينِ رحمهُ اللَّهُ: (النـِّيـَّةُ إِنْ تَعلَّقتْ بفعلٍ مُستقبَلٍ فَهِي: عَزْمٌ، وَإِن تَعلَّقتْ بفِعْلٍ حاضرٍ سُمِّيَتْ: قَصْدًا تَحقيقًا).
أمَّا العلامةُ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللَّهُ فيَرَى أنَّ النِّيَّةَ هِي: القَصْدُ بعينِهِ، إِلا أنَّ هُنَاك فرقًا بينَهما:
1- القصدُ عندَهُ: معلَّقٌ بفعلِ الفاعلِ نفسِهِ وبفعلِ غيرِهِ.
والنِّيَّةُ: متعلِّقَةٌ بفعلِ الفاعلِ نفسِهِ.
وَعَلَى هَذَا يَكُونُ القصدُ عِنْدَهُ أعمَّ مِن النِّيَّةِ.
2- القصدُ:يَكُونُ بِمَا هُو مقدورٌ عَلَى تحقيقِهِ.
والنِّيَّةُ:بِمَا هُو مقدورٌ وَغَيْرُ مقدورٍ عَلَى تحقيقِهِ.
وبناءً عَلَى هَذَا تَكُونُ النِّيَّةُ عندَهُ مِن هَذَا الْحَدِيثِ أعمَّ مِن الْقَصْدِ.
حكْمُ التَّلفُّظِ بالنِّيَّةِ:
الْجَهْرُ بالنِّيَّةِ بِدْعةٌ مُنْكَرَةٌ ؛ لأنَّهُ لَم يَثْبُتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلا فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى مَشروعِيَّتِها.
وممَّا هُو مَعْلُومٌ أنَّ الأَصْلَ فِي العباداتِ التَّحريمُ ، وَلا تَثْبُتُ العِبادةُ إِلا بِنَصٍّ.
قالَ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الرَّبيعِ سليمانُ بْنُ عمرَ الشافعيُّ: (الجهرُ بالنِّيَّةِ وبالقراءةِ خلفَ الإمامِ لَيْسَ مِن السُّنَّةِ، بَل مَكروهٌ، فَإِنْ حَصَلَ بِه تَشويشٌ عَلَى الْمُصَلِّينَ فحرامٌ، ومَنْ قَالَ بأنَّ الْجَهْرَ بلفظِ النِّيَّةِ مِنَ السُّنَّةِ فَهُو مُخْطِئٌ، وَلا يَحِلُّ لَه وَلا لغيرِهِ أَنْ يَقُولَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى بِغَيْرِ عِلْمٍ).
وقالَ الشَّيخُ عَلاءُ الدِّينِ العَطَّارُورَفْعُ الصَّوتِ بالنِّيَّةِ مَعَ التَّشويشِ عَلَى الْمُصَلِّينَ حرامٌ إجماعًا، وَمَعَ عَدَمِهِ بِدعةٌ قبيحةٌ، فَإِنْ قُصِدَ بِه الرِّيَاءُ كَانَ حرامًا مِن وجهينِ، وكبيرةً مِن الكبائرِ، والْمُنْكِرُ عَلَى مَن قَالَ بأنَّ ذَلِكَ مِن السُّنَّةِ مُصيبٌ، ومُصَوِّبُهُ مُخْطِئٌ، ونِسبَتُهُ إِلَى دِينِ اللَّهِ اعتقادًا كُفْرٌ، وَغَيْرَ اعتقادٍ مَعْصِيَةٌ، ويَجِبُ عَلَى كلِّ مُؤْمِنٍ تَمَكَّنَ مِن زجرِهِ؛ زَجْرُهُ ومَنْعُهُ ورَدْعُهُ، وَلَم يُنقَلْ هَذَا النقلُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، وَلا عَن أَحَدٍ مِن أصحابِهِ، وَلا عَن أَحَدٍ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِه مِن عُلَمَاءِ الإِسْلامِ).
وبذلك أفتَى العلامَةُ مُحَمَّدُ بْنُ الحريريِّ الأنصاريُّ، وابنُ رجبٍ، وغيرُهُم.
ممَّا تقدَّمَ نَخْلُصُ أنَّ: الجهرَ بالنِّيَّةِ بِدْعَةٌ مُنْكَرَةٌ بعيدةٌ عَن هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَثَرُ النِّيَّةِ الصالحةِ عَلَى الْمُباحاتِ:
يُعَرِّفُ عُلماءُ الأصولِ المباحَ بالآتي: هُو الَّذِي لا يُثابُ فاعلُهُ وَلا يعاقَبُ تارِكُهُ، وَيَكُونُ فِعْلُهُ وتَرْكُهُ سِيَّيْنِ.
ولكنَّ المباحَ إِذَا خالطَتْهُ النِّيَّةُ الصَّالحةُ يَكُونُ بِذَلِك قربةً ويُثابُ فاعلُهُ عَلَى ذَلِكَ.
- فمَنْ أكلَ أَو شرِبَ ونوَى التَّقَوِّيَ عَلَى طاعةِ اللَّهِ ورسولِهِ يُثابُ عَلَى هَذِهِ النِّيَّةِ.
- وَكَذَلِكَ مَنْ نوَى بكسبِهِ كفَّ وجهِهِ عَن المسألةِ والإنفاقَ عَلَى نفسِهِ وعيالِهِ، وَهَكَذَا.
ذهبَ إِلَى الْقَوْلِ بِهَذَا جمعٌ مِن أَهْلِ الْعِلْمِ:
مِنْهُمْ: ابنُ قيِّمِ الجوزيَّةِ ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ: (إنَّ خواصَّ المقرَّبينَ هُمُ الَّذِين انقلبَت المباحاتُ فِي حقِّهم إِلَى طاعاتٍ وقرباتٍ بالنِّيَّةِ، فليسَ فِي حقِّهِم مباحٌ متساوِي الطَّرَفينِ، بَلْ كلُّ أعمالِهِم راجحةٌ).
ومنهم: ابنُ الحاجِّ المالكيُّ، قَالَ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَىالمباحُ ينتقلُ بالنِّيَّةِ إِلَى النَّدبِ، وَإِن استطعْنَا أَنْ ننويَ بالفعلِ نيَّةَ أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ نيَّةِ النَّدبِ، للحديثِ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ))).
ومنهم: العلامةُ النَّوويُّ قَالَ رحمَهُ اللَّهُ مُعَقِّبًا عَلَى الْحَدِيثِ الْخَامِسِ والعشرينَ مِن أَربعينِهِ: (وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أنَّ المباحاتِ تَصيرُ طاعاتٍ بالنِّيَّاتِ الصَّالحاتِ، فالْجِماعُ يَكُونُ عِبادةً إِذَا نَوَى بِهِ قَضاءَ حقِّ الزَّوجةِ ومُعاشرَتَها بالمعروفِ الَّذي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، أَو طَلَبَ وَلَدٍ صالحٍ، أَو إعفافَ نفسِهِ، أَو إعفافَ الزَّوجةِ ومَنْعَهُما جَميعًا مِن النَّظرِ إِلَى الحرامِ، أَو الفِكْرِ فِيهِ، أَو الْهَمِّ بِهِ، أَو غَيْرِ ذلِكَ مِنَ الْمَقَاصِدِ).
ويَشْهَدُ لِمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ هَؤُلاءِ الْعُلَمَاءُ الأجلاءُ عَلَيْهِم سحائبُ الرَّحمةِ:
1- قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لسعدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ: ((إِنـَّكَ لَنْ تُنْفِقَ نَفَقَةً تَبْتَغِي بِهَا وَجْهَ اللَّهِ إِلا أُجِرْتَ عَلَيْهَا، حَتَّى مَا تَجْعَلُ فِي فَمِ امْرَأَتِكَ)).
- قَالَ النَّوويُّ مُعَقِّبًا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: (وَضْعُ اللُّقْمَةِ فِي فمِ الزَّوجةِ يَقَعُ غالبًا فِي حَالِ الْمُدَاعَبَةِ، ولِشَهْوَةِ النَّفسِ فِي ذَلِك مَدْخَلٌ ظاهِرٌ، وَمَعَ ذلِكَ إِذَا وَجَّهَ القَصْدَ فِي تِلْك الْحَالِ إِلَى ابتغاءِ الثَّوابِ حَصَلَ لَهُ بِفَضْلِ اللَّهِ).
- وقالَ السَّيوطيُّ: (ومِن أَحْسَنِ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى أنَّ الْعَبْدَ يَنالُ أَجْرًا بالنِّيَّةِ الصَّالحةِ فِي المباحاتِ والعاداتِ، قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى))، فهذه يُـثَابُ فاعلُها إِذَا قَصَدَ بِهَا التَّقرُّبَ إِلَى اللَّهِ، فَإِنْ لَم يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلا ثَوابَ لَهُ...).
2- وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَفِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ)).
قالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيَأْتِي أَحَدُنا شَهْوتَهُ وَيَكُونُ لَه أَجْرٌ ؟
قَالَ: ((أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي حَرَامٍ، أَلَيْسَ كَانَ يَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ ؟! فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلالِ لَهُ أَجْرٌ)).
ضوابطُ تحويلِ الْمُباحِ إِلَى قُرْبَةٍ:
1- لا يَجوزُ أَنْ تُتَّخَذَ المباحاتُ قُرْبةً فِي صورتِها وذاتِها، كمَنْ يَظُنُّ أنَّ الْمَشيَ أَو الأَكْلَ أَو الوقوفَ أَو اللِّبَاسَ قُرْبَةٌ لِلَّهِ فِي ذاتِهِ، لِذَلِك أَنْكَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي إسرائيلَ عندَما رآهُ قائمًا فِي الشَّمسِ، فسألَ عَن سَبَبِ وُقوفِهِ فَقِيلَ لَهُ: (هَذَا أَبُو إسرائيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلا يَقْعُدَ، وَلا يَسْتَظِلَّ، وَلا يَتَكَلَّمَ ويَصُومَ).
قَالَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مـُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ، ولْيَسْتَظِلَّ، وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ)).
2- أَنْ يَكُونَ الْمُباحُ وَسِيلَةً إِلَى العِبادةِ: قالَ ابنُ الشَّاطِ: (إِذَا قـُصِدَ بالمباحاتِ التَّقَوِّي عَلَى الطَّاعاتِ، أَو التَّوصُّلُ إِلَيْهَا كَانَتْ عِبادةً، كالأكلِ والنَّومِ واكتسابِ المالِ...).
ويَرَى العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ أنَّ المسلِمَ يُثابُ فِي هَذِه الْحَالَةِ عَلَى القَصْدِ دُونَ الفعلِ.
وقالَ ابنُ تَيميَّةَ: (يَنبغِي ألا يَفعلَ مِن المباحاتِ إِلا مَا يَستعينُ بِهِ عَلَى الطَّاعةِ، ويَقْصِدُ الاستعانةَ بِهَا عَلَى الطَّاعةِ).
3- أَنْ يَكُونَ الأَخْذُ بِهِ عَلَى أنَّهُ تشريعٌ إلهيٌّ: يَنبغِي للمسلِمِ أَنْ يَأْخُذَ
المباحَ مُعتقِدًا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ أباحَهُ لَه، وَاللَّهُ يُحِبُّ أَنْ تُؤتَى رُخَصُهُ، كَمَا تُؤتَى عزائمُهُ، كَمَا أنَّ اللَّهَ عزَّ وجلَّ لا يَرْضَى بالتَّرَهْبُنِ، والغلوِّ والتَّشدُّدِ.
وَعَلَى هَذَا يُظهِرُ المسلمُ عُبوديَّتَهُ لربِّهِ، فَهُو يَسيرُ وَفْقَ نظامٍ متكاملٍ، فالحلالُ مَا أحلَّ اللَّهُ، والحرامُ مَا حرَّمَ، والمباحُ مَا أباحَهُ، فالَّذي يَنْظُرُ للمباحِ عَلَى هَذَا الأساسِ يُثابُ، إِنْ شاءَ اللَّهُ.
4- أَنْ يَكُونَ المباحُ مباحًا بالجزءِ، ولكنَّهُ مَطْلُوبٌ بالكلِّ، سَوَاءٌ عَلَى النَّدبِ أَو الْوُجُوبِ.
فمَثَلاً يُباحُ للعبدِ أَنْ يَتْرُكَ الطَّعامَ والشَّرابَ أحيانًا، ويُجْهِدُ نفسَهُ بذلِكَ، وَلَكِنْ لا يَجوزُ لَهُ أَنْ يَتَمَادَى فِي ذَلِك حتَّى يُهْلِكَ نفسَهُ، ففي هَذِه الْحَالَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ بِمَا يُنْقِذُ بِهِ نفسَهُ، وَإِذَا لَم يَفعلْ يَستوجِبُ الوَعيدَ فِي ذلِكَ.
ولو قُدِّرَ للنَّاسِ أَنِ امتنعُوا عَن الزَّواجِ، والتِّجارةِ، والزِّراعةِ، والصِّناعةِ، يُعَدُّونَ بِذَلِك آثمينَ؛ لأنَّ هَذِه الأَشْيَاءَ مطلوبةٌ بالكلِّ.
مِنْ فوائدِ الْحَدِيثِ:
1- فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّ النِّيَّةَ مِن الإيمانِ؛ لأنَّهَا عملُ القلبِ، وَالإِيمَانُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ: تصديقٌ بالْجَنَانِ، ونُطْقٌ باللسانِ، وعملٌ بالأركانِ.
لِذَلِك ساقَ الإمامُ البخاريُّ هَذَا الْحَدِيثَ فِي كِتَابِ الإيمانِ.
2- كَمَا فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أنَّهُ يَجِبُ عَلَى المسلمِ قَبْلَ القُدومِ عَلَى الْعَمَلِ أَنْ يَعْرِفَ حُكْمَهُ: هَل هُو مشروعٌ أَمْ لا ؟ هَل هُو واجبٌ أَمْ مُسْتَحَبٌّ ؟ لأنَّهُ فِي الْحَدِيثِ الْعَمَلُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا إِذَا خلا مِنَ النِّيَّةِ المشروعةِ فِيهِ.
3- والحديثُ يَدُلُّ عَلَى اشتراطِ النِّيَّةِ فِي أعمالِ الطَّاعاتِ، وأنَّ مَا وَقَعَ مِنَ الأعمالِ بدونِهَا غَيْرُ مُعتَدٍّ بِهِ.
***********************************************************************************************
بسمِ اللَّهِ الرحمنِ الرحيمِ
[justify][size=18]الحمدُ للَّهِ الَّذي أكْمَلَ لنَا الدِّينَ، وأَتَمَّ علينا النِّعْمَةَ، وجَعَلَ أُمَّتَنَا -وللَّهِ الحمدُ- خَيْرَ أُمَّةٍ، وبَعَثَ فِينا رَسولاً منَّا يَتْلُو عَلَيْنَا آياتِهِ، ويُزَكِّينَا ويُعَلِّمُنَا الكِتَابَ والحِكْمَةَ، أَحْمَدُهُ على نِعَمِهِ الجَمَّةِ.
وأَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، شَهَادَةً تكونُ لِمَن اعْتَصَمَ بها خَيْرَ عِصْمَةٍ.
وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورسولُهُ، أرْسَلَهُ للعالَمِينَ رَحْمَةً، وفَوَّضَ إليهِ بيانَ مَا أُنْزِلَ إلَيْنا، فأَوْضَحَ لَنا كُلَّ الأمورِ المُهِمَّةِ، وخَصَّهُ بِجَوَامِعِ الكَلِمِ، فَرُبَّما جَمَعَ أَشْتَاتَ الْحِكَمِ والعُلومِ في كَلِمَةٍ، أوْ في شَطْرِ كَلِمَةٍ، صلَّى اللَّهُ عليهِ وعلَى آلِهِ وصَحْبِهِ صلاةً تكونُ لنا نُورًا مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ، وسلَّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا.
أَمَّا بَعْدُ: فإنَّ اللَّهَ سبحانَهُ وتعالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بجَوَامِعِ الكَلِمِ، وخَصَّهُ ببَدَائِعِ الْحِكَمِ، كما في (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أبي هُرَيْرَةَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ)).
قالَ الزُّهْرِيُّ: (جَوَامِعُ الكَلِمِ -فِيمَا بَلَغَنَا- أَنَّ اللَّهَ يَجْمَعُ لَهُ الأُمورَ الكثيرةَ التي كانَتْ تُكْتَبُ في الكُتُبِ قبلَهُ في الأمْرِ الوَاحِدِ وَالأَمْرَيْنِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ).
- وخرَّجَ الإمامُ أحمدُ مِنْ حديثِ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ قالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا كَالمُوَدِّعِ، فَقَالَ: ((أَنَا مُحَمَّدٌ النَّبِيُّ الأُمِّيُّ -قالَ ذَلِكَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ- وَلا نَبِيَّ بَعْدِي، أُوتِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ))وذَكَرَ الحديثَ.
- وخرَّجَ أبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ مِنْ حديثِ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((إِنِّي أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ، وَاخْتُصِرَ لِيَ اخْتِصَارًا)).
- وخَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((أُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَاخْتُصِرَ لِيَ الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا)).
- ورُوِّينَا مِنْ حَدِيثِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ إسحاقَ القُرَشِيِّ، عنْ أبي بُرْدَةَ، عنْ أبي موسَى قالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أُعْطِيتُ فَوَاتِحَ الْكَلِمِ وَخَوَاتِمَهُ وَجَوَامِعَهُ)).
فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، عَلِّمْنَا مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَعَلَّمَنَا التَّشَهُّدَ).
- وفي (صحيحِ مسلمٍ): عنْ سعيدِ بنِ أبي بُرْدَةَ بنِ أبي مُوسَى، عنْ أبِيهِ، عنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَن البِتْعِ وَالمِزْرِ، قَالَ: (وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُعْطِيَ جَوَامِعَ الكَلِمِ بِخَوَاتِمِهِ، فَقَالَ: ((أَنْهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ أَسْكَرَ عَنِ الصَّلاةِ)).
ورَوَى هشامُ بنُ عمَّارٍ في كتابِ (المَبْعَثِ) بإسنادِهِ عنْ أبي سلامٍ الْحَبَشِيِّ قالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: ((فُضِّلْتُ عَلَى مَنْ قَبْلِي بِسِتٍّ، وَلا فَخْرَ))، فذَكَرَ مِنها قَالَ: ((وَأُعْطِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَجْعَلُونَهَا جُزْءًا بِاللَّيْلِ إِلَى الصَّبَاحِ، فَجَمَعَهَا لِي رَبِّي فِي آيَةٍ وَاحِدَةٍ:{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1].
فجوامِعُ الكَلَمِ التي خُصَّ بها النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَوْعَانِ:
أحَدُهُمَا: ما هوَ في القرآنِ، كقولِهِ عزَّ وجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل: 90].
قالَ الحَسَنُ: (لمْ تَتْرُكْ هَذِهِ الآيَةُ خَيْرًا إلا أَمَرَتْ بِهِ، وَلا شَرًّا إِلا نَهَتْ عَنْهُ).
والثَّاني: ما هوَ في كلامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهوَ مُنْتَشِرٌ موجودٌ في السُّنَنِ المأثورَةِ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقدْ جَمَعَ العُلَمَاءُ جُمُوعًا منْ كَلِمَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجامِعَةِ.
- فصنَّفَ الحافِظُ أبو بكرِ بنُ السُّنِّيِّ كِتَابًا سَمَّاهُ: (الإيجازُ وجوامِعُ الكَلِمِ مِن السُّنَنِ المأْثُورَةِ).
- وجَمَعَ القاضِي أبو عبدِ اللَّهِ القُضَاعِيُّ مِنْ جوامِعِ الكَلِمِ الوَجِيزَةِ كِتابًا سمَّاهُ: (الشِّهَابُ في الحِكَمِ والآدَابِ)، وصنَّفَ عَلَى مِنْوَالِهِ قَوْمٌ آخرونَ، فزادُوا على ما ذَكَرَهُ زيادَةً كثيرةً.
- وأشارَ الخَطَّابِيُّ في أوَّلِ كتابِهِ (غريبِ الحديثِ) إلى يَسِيرٍ من الأحاديثِ الجامِعَةِ.
- وأمْلَى الإمامُ الحافِظُ أبو عَمْرِو بنُ الصَّلاحِ مَجْلِسًا سَمَّاهُ (الأحاديثَ الكُلِّيَّةَ)، جَمَعَ فيهِ الأحادِيثَ الجوامِعَ الَّتي يُقالُ: إِنَّ مَدارَ الدِّينِ عليها، وما كانَ في معْنَاهَا مِن الكلماتِ الجامِعَةِ الوجيزةِ، فاشْتَمَلَ مجلِسُهُ هذا على سِتَّةٍ وَعِشْرِينَ حديثًا.
ثمَّ إنَّ الفَقيهَ الإمامَ الزَّاهِدَ القُدوةَ أَبَا زَكَرِيَّا يَحْيَى النَّوَوِيَّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، أَخَذَ هذهِ الأحاديثَ التي أَمْلاها ابنُ الصَّلاحِ وزَادَ عليها تَمَامَ اثنيْنِ وأربعينَ حَدِيثًا، وسَمَّى كتابَهُ (بالأرْبَعِينَ).
واشْتُهِرَتْ هذهِ الأربعونَ التي جَمَعَها، وَكَثُرَ حِفْظُها، ونَفَعَ اللَّهُ بهَا بِبَرَكَةِ نِيَّةِ جامِعِها وحُسْنِ قَصْدِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
وقدْ تَكَرَّرَ سؤالُ جماعةٍ منْ طَلَبَةِ العِلْمِ والدِّينِ لتعليقِ شَرْحٍ لهذِهِ الأحاديثِ المُشارِ إليها، فاسْتَخَرْتُ اللَّهَ سبحَانَهُ وتعالَى في جَمْعِ كتابٍ يَتَضَمَّنُ شَرْحَ ما يُيَسِّرُهُ اللَّهُ تعالَى مِنْ مَعَانِيها، وتَقْييدَ ما يَفْتَحُ بِهِ سُبْحانَهُ منْ تَبْيِينِ قواعِدِها وَمَبَانِيهَا.
وإيَّاهُ أَسألُ العَوْنَ على ما قَصَدْتُ، والتَّوْفِيقَ لصلاحِ النِّيَّةِ والقَصْدِ فيما أَرَدْتُ، وَأُعَوِّلُ في أَمْرِي كُلِّهِ عَلَيْهِ، وأَبْرَأُ مِن الحَوْلِ والقُوَّةِ إِلا إِليهِ.
وقدْ كانَ بعضُ مَنْ شَرَحَ هذِهِ الأربعينَ قدْ تَعَقَّبَ على جامِعِهَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكَهُ لحديثِ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا، فَمَا أَبْقَتِ الْفَرَائِضُ فَلأَِوْلَى رَجُلٍ ذَكَرٍ))، قالَ: (لأنَّهُ جامِعٌ لقواعِدِ الفرائِضِ التي هيَ نِصْفُ العِلْمِ، فكانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ في هذهِ الأحاديثِ الجامِعَةِ).
كما ذَكَرَ حديثَ: ((الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ))؛ لجَمْعِهِ لأحكامِ القَضَاءِ.
فرأيتُ أنا أنْ أَضُمَّ هذا الحديثَ إلى أحاديثِ الأربعينَ التي جَمَعَهَا الشيخُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وأنْ أَضُمَّ إلى ذلكَ كُلِّهِ أحاديثَ أُخَرَ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الجَامِعَةِ لأنواعِ العُلومِ والحِكَمِ؛ حتَّى تَكْمُلَ عِدَّةُ الأحاديثِ كُلِّها خمسينَ حديثًا.
وهذِهِ تسميَةُ الأحاديثِ المَزِيدَةِ على ما ذَكَرَهُ الشيخُ رحِمَهُ اللَّهُ في كتابِهِ:
- حديثُ: ((أَلْحِقُوا الْفَرَائِضَ بِأَهْلِهَا)).
- حديثُ: ((يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ)).
- حديثُ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا حَرَّمَ شَيْئًا حَرَّمَ ثَمَنَهُ)).
- حديثُ(كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ)).
- حديثُ: ((مَا مَلأََ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ)).
- حديثُ: ((أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا)).
- حديثُ: ((لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ)).
- حديثُ: ((لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وسَمَّيْتُهُجَامِعَ العُلُومِ والحِكَمِ في شَرْحِ خمسينَ حديثًا منْ جوامِعِ الكَلِمِ).
واعْلَمْ أنَّهُ ليسَ غَرَضِي إلا شْرْحُ الألفاظِ النَّبَوِيَّةِ التي تَضَمَّنَتْهَا هذِهِ الأحاديثُ الكُلِّيَّةُ؛ فلذلكَ لا أَتَقَيَّدُ بألفاظِ الشيخِ رَحِمَهُ اللَّهُ في تَرَاجِمِ رُوَاةِ هذِهِ الأحاديثِ مِن الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم، ولا بألْفَاظِهِ في العَزْوِ إلى الكُتُبِ التي يَعْزُو إليها، وإنَّما آتِي بالمَعْنَى الذي يَدُلُّ على ذلكَ؛ لأَنِّي قدْ أَعْلَمْتُكَ أنَّهُ ليسَ لي غَرَضٌ إلا في شَرْحِ معاني كلماتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجوامِعِ، وما تَضَمَّنَتْهُ مِن الآدَابِ وَالحِكَمِ وَالمَعَارِفِ وَالأَحْكَامِ وَالشَّرَائِعِ.
وأُشِيرُ إشارةً لطيفَةً قبلَ الكلامِ في شرحِ الحديثِ إلى إسنادِهِ ؛ لِيُعْلَمَ بذلكَ صِحَّتُهُ وقُوَّتُهُ وضَعْفُهُ.
وأَذْكُرُ بعضَ ما رُوِيَ في معناهُ من الأحاديثِ إنْ كانَ في ذلكَ البابِ شَيْءٌ غيرُ الحديثِ الذي ذَكَرَهُ الشيخُ، وإنْ لمْ يكُنْ في البابِ غَيْرُهُ، أوْ لمْ يَكُنْ يَصِحُّ فيهِ غَيْرُهُ، نَبَّهْتُ على ذلكَ كُلِّهِ.
وباللَّهِ المُسْتَعَانُ، وعليهِ التُّكْلانُ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بِاللَّهِ.
***
(1) هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بروايَتِهِ يَحْيَى بنُ سعيدٍ الأنصارِيُّ عنْ محمَّدِ بنِ إبراهيمَ التَّيْمِيِّ، عنْ عَلْقَمَةَ بنِ وقَّاصٍ اللَّيْثِيِّ، عنْ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ.
وليسَ لَهُ طريقٌ تَصِحُّ غيرُ هذِهِ الطريقِ ، كذا قالَهُ عليُّ بنُ المَدِينِيِّ وغيرُهُ.
وقالَ الخَطَّابِيُّ: (لا أَعْلَمُ خِلافًا بينَ أهلِ الحديثِ في ذَلِكَ)، معَ أنَّهُ قدْ رُوِيَ مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ وغيرِهِ.
وقدْ قيلَ: إنَّهُ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ كثيرةٍ، لكنْ لا يَصِحُّ مِنْ ذَلِكَ شيءٌ عندَ الحُفَّاظِ.
ثمَّ رَوَاهُ عن الأنصاريِّ الخَلْقُ الكثيرُ والجَمُّ الغفيرُ.
فقيلَ: رَوَاهُ عنهُ أكثرُ مِنْ مِائَتَيْ راوٍ.
وقيلَ: رَواهُ عنهُ سبعُمِائَةِ راوٍ، ومِنْ أعيانِهم: مالِكٌ، والثَّورِيُّ، والأَوْزَاعِيُّ، وابنُ المُبَارَكِ، واللَّيثُ بنُ سَعْدٍ، وحمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وشُعْبَةُ، وابنُ عُيَيْنَةَ، وغَيْرُهم.
واتَّفَقَ العُلماءُ على صِحَّتِهِ وتَلَقِّيهِ بالقَبُولِ، وبِهِ صَدَّرَ البُخَارِيُّ كِتَابَهُ (الصَّحيحَ)، وأَقَامَهُ مقامَ الخُطْبَةِ لَهُ؛ إشارةً مِنهُ إلى أنَّ كُلَّ عَمَلٍ لا يُرادُ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ فهوَ باطلٌ، لا ثَمَرَةَ لهُ في الدُّنيا ولا في الآخِرَةِ؛ ولهذا: قالَ عبدُ الرَّحْمَنِ بنُ مَهْدِيٍّ: (لوْ صنَّفْتُ الأبوابَ لجَعَلْتُ حديثَ عُمَرَ في الأعمالِ بالنِّيَّةِ في كلِّ بابٍ).
وعنهُ أنَّهُ قالَ: (مَنْ أرادَ أنْ يُصَنِّفَ كتابًا فلْيَبْدَأْ بحديثِ ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))).
وهذا الحديثُ أَحَدُ الأحاديثِ التي يدُورُ الدِّينُ عليها :
فَرُوِيَ عن الشَّافِعِيِّ أنَّهُ قالَ: (هذا الحديثُ ثُلُثُ العِلْمِ، ويَدْخُلُ في سبعينَ بابًا مِن الفِقْهِ).
وعَن الإِمامِ أحمدَ قالَأُصُولُ الإِسلامِ على ثلاثةِ أحاديثَ:
- حديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ عائِشَةَ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
- وحديثِ النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))
وقالَالحاكِمُ: (حَدَّثُونَا عَنْ عبدِ اللَّهِ بنِ أحمدَ، عنْ أبيهِ، أنَّهُ ذَكَرَ قولَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ(الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وقولَهُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).
وقولَهُ(مَنْ أَحْدَثَ فِي دِينِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
فقالَ: يَنْبَغِي أنْ يُبْدَأَ بهذِهِ الأحاديثِ في كُلِّ تَصْنِيفٍ؛ فإنَّها أُصُولُ الحديثِ).
وعن ْ إِسْحَاقَ بنِ رَاهُويَهْ قالَ: (أَرْبَعَةُ أَحَادِيثَ هيَ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ:
- حديثُ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((إِنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ)).
- وحديثُ: ((مَنْ صَنَعَ فِي أَمْرِنَا شَيْئًا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ))).
ورَوَى عثمانُ بنُ سعيدٍ عنْ أبي عُبَيْدٍ قالَ: (جَمَعَ النبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسَلَّمَ جَمِيعَ أَمْرِ الآخِرَةِ في كَلِمَةٍ: ((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وجَمَعَ أمْرَ الدُّنْيَا كُلَّهُ في كَلِمَةٍ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، يدْخُلانِ في كلِّ بابٍ).
وعنْ أبي دَاودَ قالَ: (نَظَرْتُ في الحديثِ المُسْنَدِ، فإذا هوَ أَرْبَعَةُ آلافِ حديثٍ، ثُمَّ نَظَرْتُ فإذا مَدَارُ الأربَعَةِ آلافِ حديثٍ على أربعةِ أحاديثَ:
- حديثِ النُّعْمَانِ بنِ بشيرٍ(الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثِ عُمَرَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثِ أبي هُريرةَ: ((إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ، لا يَقْبَلُ إِلا طَيِّبًا، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَمَرَ بِهِ الْمُرْسَلِينَ)) الحديثَ.
- وحديثِ(مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
قالَ: فَكُلُّ حديثٍ مِنْ هذِهِ رُبْعُ العِلْمِ).
وعنْ أبي دَاودَ أيضًا قالَ: (كَتَبْتُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ خَمْسَمِائَةِ أَلْفِ حَديثٍ، انْتَخَبْتُ مِنها ما ضَمَّنْتُهُ هذا الكِتَابَ -يَعْنِي كِتَابَ (السُّنَنِ)- جَمَعْتُ فيهِ أربعةَ آلافٍ وثَمَانَمِائَةِ حديثٍ، ويَكْفِي الإِنسانَ لدينِهِ مِنْ ذَلِكَ أربعةُ أحاديثَ:
أحدُها:قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
والثَّاني: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
والثالِثُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يَكُونُ الْمُؤمِنُ مُؤْمِنًا حتَّى لا يَرْضَى لأَِخِيهِ إِلا مَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ)).
والرَّابِعُ: قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ))).
وفي رِوَايَةٍ أُخْرَى عنهُ، أنَّهُ قالَ: (الفِقْهُ يَدُورُ على خَمْسَةِ أحاديثَ:
((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بيِّنٌ)). وقولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا ضَرَرَ، وَلا ضِرَارَ)). وقولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)). وقولِهِ: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ)).
وقولِهِ: ((وَمَا نَهْيتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمْرتُكُمْ بِهِ فَائْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ))).
وفي روايَةٍ عنهُ قالَ: (أُصُولُ السُّنَنِ في كُلِّ فَنٍّ أربَعَةُ أحاديثَ:
- حديثُ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
- وحديثُ: ((الْحَلالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ)).
- وحديثُ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ)).
- وحديثُ(ازْهَدْ فِي الدُّنْيَا يُحِبَّكَ اللَّهُ، وَازْهَدْ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ))).
وللحافِظِ أبي الحَسَنِ طاهِرِ بنِ مُفَوِّزٍ المَعَافِرِيِّ الأنْدُلُسِيِّ:
عُمْدَةُ الدِّينِ عندَنَا كَلِمَاتٌ أَرْبعٌ = مِنْ كلامِ خـَيـْرِ البـَرِيَّهْ
اتَّقِ الـشُّبـُهَاتِ وازْهَدْ وَدَعْ = مَا لَيْسَ يَعْنِيكَ واعْمَلَنَّ بِنِيَّهْ
فقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)) وفي روايَةٍ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)).
وكلاهُمَا يَقْتَضِي الحَصْرَ على الصَّحيحِ ، وليسَ غَرَضُنا هَا هُنَا تَوْجِيهَ ذَلِكَ، ولا بَسْطَ القَوْلِ فيهِ.
وقد اخْتُلِفَ في تقديرِ قولِهِ(الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ)): فكثيرٌ مِن المُتَأَخِّرِينَ
يَزعُمُ أنَّ تقديرَهُ: الأَعْمَالُ صَحِيحَةٌ، أوْ مُعْتَبَرَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ بالنِّيَّاتِ.
وعلى هذا، فالأعمالُ إنَّما أُرِيدَ بها الأعمالُ الشَّرْعِيَّةُ المُفْتَقِرةُ إلى النِّيَّةِ.
فأمَّا ما لا يَفْتَقِرُ إلى النِّيَّةِ كالعاداتِ مِن الأكلِ والشُّرْبِ واللُّبْسِ وغيرِها، أوْ مثلِ رَدِّ الأماناتِ والمَضْمُونَاتِ، كالودائِعِ والغُصُوبِ، فلا يَحتَاجُ شيءٌ مِنْ ذَلِكَ إلَى نِيَّةٍ، فيُخَصُّ هذا كُلُّهُ مِنْ عُمُومِ الأعمالِ المذكَورَةِ هَا هُنا.
وقال آخرونَ: بل الأعمالُ هنا على عُمُومِهَا، لا يُخَصُّ منها شيءٌ.
وَحَكَاهُ بَعْضُهم عن الجمهورِ، وكأنَّهُ يُرِيدُ بِهِ جُمْهُورَ المُتَقَدِّمِينَ.
وقدْ وَقَعَ ذَلِكَ في كلامِ ابنِ جريرٍ الطَّبَرِيِّ وأبي طالِبٍ المَكِّيِّ وغيرِهِمَا مِن المُتَقَدِّمِين، وهوَ ظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أَحْمَدَ.
قالَ في رِوَايَةِ حَنْبَلٍ: (أُحِبُّ لكلِّ مَنْ عَمِلَ عَمَلاً مِنْ صلاةٍ، أوْ صيامٍ، أوْ صَدَقَةٍ، أوْ نوعٍ مِنْ أنواعِ البِرِّ، أنْ تكونَ النِّيَّةُ مُتَقَدِّمَةً في ذَلِكَ قبلَ الفِعْلِ؛ قالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، فهذا يَأْتِي على كُلِّ أمْرٍ مِن الأُمورِ).
وقال الفَضْلُ بنُ زِيَادٍ: سأَلْتُ أبا عبدِ اللَّهِ -يَعْنِي أحمدَ- عَن النِّيَّةِ في العَمَلِ، قلتُ: كيفَ النِّيَّةُ؟ قالَ: (يُعالِجُ نفسَهُ إذا أرادَ عَمَلاً لا يُرِيدُ بِهِ النَّاسَ).
وقالَ أحمدُ بنُ داودَ الحَرْبِيُّ: حَدَّثَ يزيدُ بنُ هارونَ بحديثِ عُمَرَ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))، وأحمدُ جالِسٌ، فقالَ أحمدُ ليَزيدَ: (يا أَبَا خَالِدٍ، هذا الْخِنَاقُ).
وعلى هذا القولِ: فقيلَ: تقديرُ الكلامِ : الأعمالُ واقِعَةٌ أوْ حاصِلَةٌ بالنِّيَّاتِ، فيكونُ إِخبارًا عن الأعمالِ الاخْتِيَارِيَّةِ أنَّها لا تَقَعُ إلا عَنْ قصْدٍ مِن العامِلِ هوَ سَبَبُ عمَلِها ووُجُودِها، ويكونُ قولُهُ بعدَ ذَلِكَ: ((وَإِنَّمَا لامْرِئٍ مَا نَوَى))، إِخبارًا عنْ حُكْمِ الشَّرْعِ، وهوَ أنَّ حَظَّ العامِلِ مِنْ عَمَلِهِ نِيَّتُهُ، فإنْ كانَتْ صالِحَةً فعَمَلُهُ صالِحٌ، فَلَهُ أجرُهُ، وإنْ كانَت فاسِدَةً فعَمَلُهُ فاسِدٌ، فعليهِ وِزْرُهُ.
ويَحْتَمِلُ أن يَكُونَ التَّقديرُ في قولِهِ: ((الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ))الأعمالُ صالِحَةٌ، أوْ فاسِدَةٌ، أوْ مَقْبُولَةٌ، أوْ مَرْدُودَةٌ، أوْ مُثَابٌ عليها، أوْ غيرُ مُثَابٍ عليها، بالنِّيَّاتِ، فيكونُ خَبَرًا عنْ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وهوَ أنَّ صلاحَ الأعمالِ وفسا