[b][size=18][justify]- إِذَا وَلَدَتِ الأَمَةُ رَبَّتَهَا فَذَاكَ مِنْ أَشْراطِهَا.
- وَإِذَا رَأَيْتَ الْعُرَاةَ الْحُفَاةَ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا.
- وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ)).
ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: 34].
قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((عَلَيَّ بِالرَّجُلِ)).
فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ)).
وخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بسِيَاقٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا.
وفيهِ في خِصَالِ الإِيمانِ: ((وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ)).
وقَالَ في الإِحْسَانِ: ((أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).
وخَرَّجهُ الإِمامُ أَحْمَدُ في (مُسْنَدِه) مِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ.
ومِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ أَيْضًا عَن ابنِ عَامِرٍ أوْ أَبِي عَامِرٍ، أوْ أَبِي مَالِكٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وفي حَدِيثِهِ قَالَ: وَنَسْمَعُ رَجْعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَلا نَرَى الَّذِي يُكَلِّمُهُ، وَلا نَسْمَعُ كَلامَهُ.
وهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وهوَ أَصَحُّ.
وقَدْ رُوِيَ الحَدِيثُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ وجَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيِّ وغَيْرِهِمَا.
وهوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جِدًّا، يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الدِّينِ كُلِّهِ ؛ ولِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في آخِرِهِ(هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ))، بَعْدَ أنْ شَرَحَ دَرَجَةَ الإِسْلامِ ودَرَجَةَ الإِيمَانِ ودَرَجَةَ الإِحْسَانِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا.
واخْتَلَفَت الرِّوَايَةُ في تَقْدِيمِ الإِسْلامِ عَلَى الإِيمَانِ وعَكْسِهِ.
ففي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أنَّهُ بَدَأَ بالسُّؤَالِ عَن الإِسْلامِ.
وفي التِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِ أنَّهُ بَدَأَ بالسُّؤَالِ عن الإِيمَانِ، كَمَا في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وجَاءَ في بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ عُمَرَ أنَّهُ سَأَلَ عَن الإِحْسَانِ بَيْنَ الإِسْلامِ والإِيمَانِ.
فَأَمَّا الإِسْلامُ، َقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بأَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ مِن القَوْلِ والعَمَلِ.
وأَوَّلُ ذَلِكَ: شَهَادَةُ أنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وهوَ عَمَلُ اللِّسانِ.
- ثُمَّ إِقَامُ الصَّلاةِ.
- وإِيتاءُ الزَّكاةِ.
- وصَوْمُ رَمَضَانَ.
- وحَجُّ البَيْتِ لِمَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
وهيَ مُنْقَسِمَةٌ:
- إِلَى عَمَلٍ بَدَنِيٍّ كالصَّلاةِ والصَّوْمِ.
- وإِلَى عَمَلٍ مَالِيٍّ، وهوَ إِيتَاءُ الزَّكاةِ.
- وإِلَى مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُما كالحَجِّ بالنِّسْبَةِ إِلَى البَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ.
وفي رِوَايَةِ ابنِ حِبَّانَ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ:
- الاعْتِمَارَ.
- والغُسْلَ مِن الجَنَابَةِ.
- وإِتْمَامَ الوُضُوءِ.
وفي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَاخِلَةٌ في مُسَمَّى الإِسْلامِ .
وإنَّما ذَكَرَ ها هُنا أُصُولَ أَعْمَالِ الإِسلامِ الَّتِي يَنْبَنِي الإِسْلامُ عَلَيْهَا، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ في حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: ((بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ)) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وقَوْلُهُ في بَعْضِ الرَّواياتِ: فإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا مُسْلِمٌ؟
قَالَ: ((نَعَمْ)).
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَمَّلَ الإِتْيَانَ بِمَبَانِي الإِسْلامِ الخَمْسِ صَارَ مُسْلِمًا حَقًّا، مَعَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا حُكْمًا، فَإِذَا دَخَلَ في الإِسْلامِ بذلكَ أُلْزِمَ بالقِيَامِ ببَقِيَّةِ خِصالِ الإِسلامِ.
ومَنْ تَرَكَ الشَّهادَتَيْنِ خَرَجَ مِنَ الإِسلامِ.
وفي خُرُوجِهِ مِن الإِسْلامِ بتَرْكِ الصَّلاةِ خِلافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، وكَذَلِكَ في تَرْكِ بَقِيَّةِ مَبَانِي الإِسْلامِ الخَمْسِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ تَدْخُلُ في مُسَمَّى الإِسْلامِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْروٍ، أنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: ((أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأَ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)).
وفي (صَحِيحِ الحَاكِمِ): عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ لِلإِسْلامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَسْلِيمُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَا لَقِيتَهُمْ وَتَسْلِيمُكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِم، فَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنَ الإِسْلامِ تَرَكَهُ، وَمَنْ يَتْرُكْهُنَّ فَقَدْ نَبَذَ الإِسْلامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)).
وخَرَّجَ ابْنُ مَرْدُويَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لِلإِسْلامِ ضِيَاءٌ وَعَلامَاتٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَرَأْسُهَا وَجِمَاعُهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتَمَامُ الْوُضُوءِ، وَالْحُكْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَاعَةُ وُلاةِ الأَمْرِ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى أَهْلِيكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَاقِيتُمُوهُمْ )).
وفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، ولَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ .
وصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ صِلَةَ بنِ زُفَرَ، عنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (الإِسْلامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسلامُ سَهْمٌ، والصَّلاةُ سَهْمٌ، والزَّكَاةُ سَهْمٌ، وحَجُّ البَيْتِ سَهْمٌ، والجِهَادُ سَهْمٌ، وصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، والأَمْرُ بالمَعْرُوفِ سَهْمٌ، والنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ سَهْمٌ، وخَابَ مَنْ لا سَهْمَ لَهُ).
وخَرَّجَهُ البَزَّارُ مَرْفُوعًا، والمَوْقُوفُ أَصَحُّ .
ورَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَن أَبِي إِسْحَاقَ، عن الحَارِثِ عَن عَلِيٍّ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
خَرَّجَهُ أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ وغَيْرُهُ، والمَوْقُوفُ عَلَى حُذَيْفَةَ أَصَحُّ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وغَيْرُهُ.
وقَوْلُهُ: (الإِسْلامُ سَهْمٌ)، يَعْنِي: الشَّهَادَتَيْنِ؛ لأَِنَّهما عَلَمُ الإِسْلامِ، وبِهِمَا يَصِيرُ الإِنْسَانُ مُسْلِمًا.
وكَذَلِكَ تَرْكُ المُحَرَّمَاتِ دَاخِلٌ في مُسمَّى الإِسْلامِ أَيْضًا ، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))، وسَيَأْتِي في مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلا تَعْوَجُّوا.
وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. وَالصِّرَاطُ: الإِسْلامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالأَبْوَابُ الْمُفتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقُ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ)).
زَادَ التِّرْمِذِيُّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
فَفِي هَذَا المَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّ الإِسْلامَ هوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بالاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، ونَهَى عَن تَجَاوُزِ حُدُودِهِ، وأَنَّ مَن ارْتَكَبَ شَيْئًا مِن المُحَرَّماتِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَهُ.
وأَمَّا الإِيمَانُ، فَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ بِالاعْتِقَادَاتِ البَاطِنَةِ ، فَقَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ في كِتَابِهِ الإِيمانَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الخَمْسَةِ في مَوَاضِعَ:
- كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
- وقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآيَةَ [البقرة: 277].
- وقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: 3-4].
والإِيمانُ بالرُّسُلِ يَلْزَمُ منهُ الإِيمانُ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بهِ مِن المَلائِكَةِ، والأَنْبِياءِ، والكِتَابِ، والبَعْثِ، والقَدَرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وصِفَاتِ اليَوْمِ الآخِرِ، كالمِيزَانِ والصِّراطِ والجنَّةِ والنَّارِ.
وقَدْ أُدْخِلَ في الإِيمانِ الإِيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، ولأَِجْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ رَوَى ابنُ عُمَرَ هَذَا الحَدِيثَ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى مَنْ أنْكَرَ القَدَرَ وزَعَمَ أَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ، يَعْنِي: أنَّهُ مُسْتَأنَفٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ سَابِقُ قَدَرٍ مِن اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وقَدْ غَلَّظَ ابنُ عُمَرَ عَلَيْهِم، وتَبَرَّأَ مِنْهُم، وأَخْبَرَ أَنَّهُ لا تُقْبَلُ منهم أَعْمَالُهُم بدُونِ الإِيمانِ بالقَدَرِ.
والإِيمانُ بالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: الإِيمانُ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَقَ في عِلْمِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ خَيْرٍ وشَرٍّ، وطَاعَةٍ ومَعْصِيَةٍ، قَبْلَ خَلْقِهِم وإِيجَادِهِم، ومَنْ هُوَ مِنْهُم مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ومِنْ أهلِ النَّارِ، وأَعَدَّ لَهُم الثَّوابَ والعِقَابَ جَزَاءً لأَِعْمَالِهِم قَبْلَ خَلْقِهِم وتَكْوِينِهِم، وأنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عندَهُ وأَحْصَاهُ، وأنَّ أَعْمالَ العِبَادِ تَجْرِي عَلَى مَا سَبَقَ في عِلْمِهِ وكِتَابِهِ.
والدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَفْعَالَ عِبَادِهِ كُلَّهَا مِن الكُفْرِ والإِيمانِ، والطَّاعةِ والعِصْيانِ، وشَاءَها مِنْهُم.
فهذهِ الدَّرَجَةُ يُثْبِتُها أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، ويُنْكِرُهَا القَدَرِيَّةُ.
والدَّرَجَةُ الأُولَى أَثْبَتَهَا كَثِيرٌ مِن القَدَرِيَّةِ، ونَفَاهَا غُلاتُهم، كمَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ، الَّذِي سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عَنْ مَقَالَتِهِ، وكعمرِو بنِ عُبَيْدٍ وغَيْرِهِ.
وقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ:
نَاظِرُوا القَدَرِيَّةَ بالعِلْمِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بهِ خُصِمُوا، وإنْ جَحَدُوهُ فَقَدْ كَفَرُوا.
يُرِيدُونَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ السَّابِقَ بأَفْعَالِ العِبَادِ ، وأَنَّ اللَّهَ قَسَّمَهُم قَبْلَ خَلْقِهِمْ إِلَى شَقِيٍّ وسَعِيدٍ، وكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ في كِتَابٍ حَفِيظٍ، فَقَدْ كَذَّبَ بالقُرْآنِ، فيَكْفُرُ بذلكَ، وإنْ أَقَرُّوا بذَلِكَ وأَنْكَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وشَاءَها، وأَرَادَها مِنْهُم إِرَادَةً كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً، فَقَدْ خُصِمُوا؛ لأَِنَّ مَا أَقَرُّوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِم فيما أَنْكَرُوهُ.
وفي تَكْفِيرِ هؤلاءِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ.
وأمَّا مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ، فنَصَّ الشَّافِعِيُّ وأَحْمَدُ عَلَى تَكْفِيرِهِ، وكَذَلِكَ غَيْرُهما مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ.
فإنْ قِيلَ:
فَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ بَيْنَ الإِسْلامِ والإِيمانِ،
وجَعَلَ الأَعْمَالَ كُلَّها مِن الإِسْلامِ، لا مِن الإِيمانِ.
والمَشْهُورُ عَن السَّلَفِ وأَهْلِ الحَدِيثِ أنَّ الإِيمَانَ:
قَوْلٌ وَعَمَلٌ ونِيَّةٌ، وأَنَّ الأَعْمَالَ كُلَّها دَاخِلَةٌ في مُسَمَّى الإِيمانِ.
وحَكَى الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ ومَنْ بَعْدَهُم مِمَّنْ أَدْرَكَهُم.
وأَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ الأَعْمَالَ عَن الإِيمانِ إِنْكَارًا شَدِيدًا.
ومِمَّن أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ، وجَعَلَهُ قَوْلاً مُحْدَثًا:
سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ومَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ، وقَتَادَةُ، وأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وإِبْرَاهِيمُ النَّخَعَيُّ، والزُّهْرِيُّ، ويَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيرٍ، وغَيْرُهم.
وقَالَ الثَّوْرِيُّ: (هوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ، أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ).
وقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: (كَانَ مَنْ مَضَى مِمَّنْ سَلَفَ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإِيمَانِ والعَمَلِ).
وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَهْلِ الأَمْصَارِ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ للإِيمَانِ فَرَائِضَ وشَرَائِعَ وحُدُودًا وسُنَنًا، فمَن اسْتَكْمَلَها اسْتَكْمَلَ الإِيمانَ، ومَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِل الإِيمانَ).
ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ).
قِيلَ: الأَمْرُ عَلَى ما ذَكَرَهُ.
وقَدْ دَلَّ عَلَى دُخُولِ الأَعْمَالِ في الإِيمانِ:
- قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
- وفي (الصَّحيحَيْنِ): عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ: ((آمُرُكُمْ بَأَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ)).
- وفي (الصَّحيحَيْنِ): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))، ولفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
- وفي (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
فَلَوْلا أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ الكَبائِرِ مِنْ مُسَمَّى الإِيمانِ لَمَا انْتَفَى اسْمُ الإِيمانِ عنْ مُرْتَكِبِ شيءٍ منهَا ؛ لأَِنَّ الاسْمَ لا يَنْتَفِي إلا بانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ المُسَمَّى أوْ واجِبَاتِهِ.
وأَمَّا وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ هذهِ النُّصوصِ وبَيْنَ حَدِيثِ سُؤالِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ
عَن الإِسْلامِ والإِيمانِ، وتَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وإِدْخَالِهِ الأَعْمَالَ في مُسمَّى الإِسلامِ دُونَ مُسمَّى الإِيمانِ؛ فإنَّهُ يَتَّضِحُ بتَقْرِيرِ أَصْلٍ:
وهوَ:
أَنَّ مِن الأَسْمَاءِ ما يَكُونُ شَامِلاً لمُسَمَّياتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عندَ إِفْرَادِهِ وإِطْلاقِهِ، فَإِذَا قُرِنَ ذَلِكَ الاسْمُ بغَيْرِهِ صَارَ دَالاًّ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ المُسَمَّياتِ، والاسمُ المَقْرُونُ بِهِ دَالٌّ عَلَى باقِيهَا.
وهَذَا كاسْمِ الفَقِيرِ والمِسْكِينِ:
- فإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُما:
دَخَلَ فيهِ كُلُّ مَنْ هوَ مُحْتَاجٌ.
- فإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُما بالآخَرِ:
دَلَّ أَحَدُ الاسْمَيْنِ عَلَى بَعْضِ أَنْواعِ ذَوِي الحَاجَاتِ، والآخَرُ عَلَى بَاقِيهَا.
فهكَذَا اسْمُ الإِسْلامِ والإِيمَانِ:
إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُما دَخَلَ فيهِ الآخَرُ، ودَلَّ بانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الآخَرُ بانْفِرَادِهِ، فإِذَا قُرِنَ بينَهُما دلَّ أَحَدُهُما عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بانْفِرَادِهِ، ودَلَّ الآخَرُ عَلَى البَاقِي.
وقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا المَعْنَى جَمَاعَةٌ مِن الأَئِمَّةِ.
َالَ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ في رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ الجَبَلِ: (قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ: إِنَّ الإِيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، والإِسْلامَ فِعْلُ مَا فُرِضَ عَلَى الإِنْسَانِ أنْ يَفْعَلَهُ، إِذَا ذُكِرَ كُلُّ اسمٍ عَلَى حِدَتِهِ مَضْمُومًا إلى الآخَرِ، فقِيلَ: المُؤْمِنُونَ والمُسْلِمونَ، جَمِيعًا مُفْرَدَيْنِ، أُرِيدَ بأَحَدِهِمَا مَعْنًى لَمْ يُرَدْ بالآخَرِ، وإِذَا ذُكِرَ أَحَدُ الاسْمَيْنِ شَمِلَ الكُلَّ وعَمَّهُم).
وقَدْ ذَكَرَ هَذَا المَعْنَى أيضًا الخَطَّابِيُّ في كِتَابِهِ (مَعَالِمِ السُّنَنِ)، وتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِن العُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ.
ويَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَسَّرَ الإِيمَانَ عِنْدَ ذِكْرِهِ مُفْرَدًا في حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الإِسلامَ المَقْرُونَ بالإِيمانِ في حديثِ جِبْرِيلَ.
وفَسَّرَ في حَدِيثٍ آخَرَ الإِسْلامَ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الإِيمانَ، كما في (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عَن عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِسْلامُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ)).
قَالَ: فَأَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((الإِيمَانُ)).
قَالَ: وَمَا الإِيمانُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ)).
قَالَ: فَأَيُّ الإِيمانِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((الْهِجْرَةُ)).
قَالَ: فَما الهِجْرَةُ؟
قَالَ: ((أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ)).
قَالَ: فَأَيُّ الهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟
قالَ: ((الْجِهَادُ)).
فجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الإِيمانَ أَفْضَلَ الإِسْلامِ، وأَدْخَلَ فيهِ الأَعْمَالَ.
وبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَظْهَرُ تَحْقِيقُ القَوْلِ في مَسْأَلَةِ الإِسْلامِ والإِيمَانِ:
هلْ هُمَا واحِدٌ، أوْ هُمَا مُخْتَلِفَانِ؟
فإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ والحَدِيثِ مُخْتَلِفُونَ في ذَلِكَ ، وصَنَّفُوا في ذَلِكَ تَصَانِيفَ مُتَعَدِّدَةً.
فمِنْهُم مَنْ يَدَّعِي أنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أنَّهُما شَيْءٌ واحِدٌ:
مِنْهُم مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ.
وقَدْ رُوِيَ هَذَا القَوْلُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بنِ سُوَيْدٍ الرَّمْلِيِّ عنهُ، وأيُّوبُ فيهِ ضَعْفٌ.
ومنهم مَنْ يَحْكِي عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّفْرِيقَ بينَهُما:
كأَبِي بَكْرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ وغَيْرِهِ.
وقَدْ نُقِلَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُما عَنْ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ ، منهم قَتَادَةُ، ودَاودُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، وأَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ، والزُّهْرِيُّ، وحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وابْنُ مَهْدِيٍّ، وشَرِيكٌ، وابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وأبو خَيْثَمَةَ، ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وغَيْرُهم، على اختلافٍ بينَهم في صِفَةِ التَّفْرِيقِ بينَهُما.
وكَانَ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ يَقُولانِ: (مُسْلِمٌ)، ويَهَابَانِ: (مُؤْمِنٌ).
وبِهَذَا التَّفْصِيلِ الَّذي ذَكَرْنَاهُ يَزُولُ الاخْتِلافُ.
فيُقَالُ: إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِن الإِسْلامِ والإِيمَانِ بالذِّكْرِ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما حِينَئذٍ، وإِنْ قُرِنَ بَيْنَ الاسْمَيْنِ كَانَ بينَهما فَرْقٌ.
والتَّحْقِيقُ في الفَرْقِ بينَهُما :
- أَنَّ الإِيمانَ: هوَ تَصْدِيقُ القَلْبِ وإِقْرَارُهُ ومَعْرِفَتُهُ.
- والإِسلامَ: هوَ اسْتِسْلامُ العَبْدِ لِلَّهِ وخُضُوعُهُ وانْقِيَادُهُ لَهُ، وذَلِكَ يَكُونُ بالعَمَلِ، وهوَ الدِّينُ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ الإِسْلامَ دِينًا، وفى حَدِيثِ جِبْرِيلَ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الإِسْلامَ والإِيمَانَ والإِحْسَانَ دِينًا.
وهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ علَى أنَّ أَحَدَ الاسْمَيْنِ إِذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فيهِ الآخَرُ، وإنَّما يُفَرَّقُ بَيْنَهُما حَيْثُ قُرِنَ أَحَدُ الاسْمَيْنِ بالآخَرِ، فيَكُونُ حينَئذٍ المُرَادُ بالإِيمانِ جِنْسَ تَصْدِيقِ القَلْبِ، وبالإِسْلامِ جِنْسَ العَمَلِ.
وفِي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عَنْ أنسٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الإِسْلامُ عَلانِيَةٌ، وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ)).
وهَذَا لأَِنَّ الأَعْمَالَ تَظْهَرُ عَلانِيَةً، والتَّصْدِيقَ في القَلْبِ لا يَظْهَرُ.
وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ في دُعَائِهِ إِذَا صَلَّى عَلَى المَيِّتِ: ((اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ)) لأَِنَّ العَمَلَ بالجَوَارِحِ إِنَّمَا يُتَمَكَّنُ منهُ في الحَيَاةِ، فأَمَّا عندَ الموتِ فَلا يَبْقَى غَيْرُ التَّصْدِيقِ بالقَلْبِ.
ومِنْ هُنا قَالَ المُحَقِّقونَ مِن العُلَماءِ:
كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ؛ فإِنَّ مَنْ حَقَّقَ الإِيمَانَ، ورَسَخَ في قَلْبِهِ، قَامَ بأَعْمَالِ الإِسْلامِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلبُ)).
فَلا يَتَحَقَّقُ الْقَلْبُ بِالإِيمَانِ إِلا وَتَنْبَعِثُ الْجَوَارِحُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلامِ.
ولَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا؛ فإنَّهُ قَدْ يَكُونُ الإِيمانُ ضَعِيفًا، فَلا يَتَحَقَّقُ القَلْبُ بِهِ تَحَقُّقًا تَامًّا مَعَ عَمَلِ جَوَارِحِهِ بأعْمَالِ الإِسلامِ، فيَكُونُ مُسْلِمًا ولَيْسَ بِمُؤْمِنٍ الإِيمانَ التَّامَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحُجُرَات: 14]، ولَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وهوَ قَوْلُ ابنِ عبَّاسٍ وغَيْرِهِ، بلْ كَانَ إِيمَانُهم ضَعِيفًا.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحُجُرات: 14].
يَعْنِي: لا يَنْقُصُكُم مِنْ أُجُورِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعَهُم مِن الإِيمانِ مَا تُقْبَلُ بِهِ أَعْمَالُهُم.
وكَذَلِكَ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لسَعْدِ بنِ أَبِي وقَّاصٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: لَمْ تُعْطِ فُلانًا وهوَ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَوْ مُسْلِمٌ)) يُشِيرُ إِلَى أنَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ مَقَامَ الإِيمانِ، وإنَّما هوَ فِي مَقَامِ الإِسْلامِ الظَّاهِرِ.
ولا رَيْبَ أنَّهُ مَتَى ضَعُفَ الإِيمانُ البَاطِنُ لَزِمَ منهُ ضَعْفُ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ أيضًا ، لكنَّ اسْمَ الإِيمانِ يُنْفَى عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
وقَد اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ:
هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا نَاقِصَ الإِيمانِ، أوْ يُقَالُ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ لَكِنَّهُ مُسْلِمٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ، وهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وأَمَّا اسْمُ الإِسْلامِ ، فَلا يَنْتَفِي بانْتِفَاءِ بَعْضِ واجِبَاتِهِ، أو انْتِهَاكِ بَعْضِ مُحَرَّمَاتِهِ.
وإنَّما يُنْفَى بالإِتْيانِ بِمَا يُنافِيهِ بالكُلِّيَّةِ.
ولا يُعرَفُ فِي شَيْءٍ مِن السُّنَّةِ الصَّحيحةِ نَفْيُ الإِسْلامِ عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا يُنْفَى الإِيمانُ عمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ إِطْلاقُ الكُفْرِ علَى فِعْلِ بَعْضِ المُحَرَّماتِ، وإِطْلاقُ النِّفَاقِ أيضًا.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ:
هَلْ يُسَمَّى مُرْتَكِبُ الكَبَائِرِ كَافِرًا كُفْرًا أَصْغَرَ أوْ مُنَافِقًا النِّفَاقَ الأَصْغَرَ.
ولا أَعْلَمُ أنَّ أَحَدًا منهم أَجَازَ إِطْلاقَ نَفْيِ اسْمِ الإِسْلامِ عنْهُ، إلا أَنَّهُ رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَالَ: (مَا تَارِكُ الزَّكَاةِ بِمُسْلِمٍ).
ويَحْتَمِلُ أنَّهُ كَانَ يَرَاهُ كَافِرًا بذَلِكَ خَارِجًا مِن الإِسْلامِ.
وكَذَلِكَ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِن الحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ (أَنَّهُم لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ).
والظَّاهِرُ أنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ كُفْرَهم؛ ولِهَذَا أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِم الجِزْيَةَ يَقُولُ: لَمْ يَدْخُلُوا فِي الإِسْلامِ بَعْدُ، فَهُم مُسْتَمِرُّونَ عَلَى كِتَابِيَّتِهِم.
وإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الإِسْلامِ لا يَنْتَفِي إلا بوُجُودِ ما يُنافِيهِ
ويُخْرِجُ عن المِلَّةِ بالكُلِّيَّةِ، فاسمُ الإِسلامِ إِذَا أُطْلِقَ أو اقْتَرَنَ بهِ المَدْحُ دَخَلَ فيهِ الإِيمانُ كُلُّهُ مِن التَّصْدِيقِ وغَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ.
وخَرَّجَ النَّسائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ مَالِكٍ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً، فَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُم: إِنِّي مُسْلِمٌ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِن السَّريَّةِ، فَنُمِيَ الحديثُ إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ فيهِ قَوْلاً شَدِيدًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّما قَالَهَا تَعَوُّذًا مِن القَتْلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
فلَوْلا أَنَّ الإِسْلامَ المُطْلَقَ يَدْخُلُ فيهِ الإِيمَانُ والتَّصْدِيقُ بالأُصُولِ الخَمْسَةِ، لَمْ يَصِرْ مَنْ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ، مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ هَذَا القَوْلِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عنْ مَلِكَةِ سَبَأٍ أنَّهَا دَخَلَتْ فِي الإِسْلامِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
وأَخْبَرَ عنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ دَعَا بالمَوْتِ عَلَى الإِسْلامِ.
وهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِسْلامَ المُطْلَقَ يَدْخُلُ فيهِ مَا يَدْخُلُ فِي الإِيمَانِ مِن التَّصْدِيقِ.
وفي (سُنَنِ ابنِ مَاجَهْ): عنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((يَا عَدِيُّ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ)).
قُلْتُ: وَمَا الإِسْلامُ؟
قَالَ: ((تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَتُؤْمِنُ بِالأَقْدَارِ كُلِّهَا؛ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، حُلْوِهَا وَمُرِّهَا)).
فهذا نَصٌّ فِي أنَّ الإِيمَانَ بالقَدَرِ مِن الإِسْلامِ.
ثُمَّ إِنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الإِسْلامِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ ، ولَيْسَ المُرَادُ الإِتْيانَ بِلَفْظِهِمَا دُونَ التَّصْدِيقِ بِهِمَا، فَعُلِمَ أنَّ التَّصْدِيقَ بِهِمَا دَاخِلٌ فِي الإِسْلامِ.
وقَدْ فَسَّرَ الإِسْلامَ المَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمرانَ: 19] بالتَّوحِيدِ والتَّصْدِيقِ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ؛ مِنْهُم مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ.
وأَمَّا إِذَا نُفِيَ الإِيمَانُ عَنْ أَحَدٍ وأُثْبِتَ لَهُ الإِسْلامُ ، كالأَعْرَابِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُم؛ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي رُسُوخُ الإِيمانِ فِي القَلْبِ، وتَثْبُتُ لَهُم المُشَارَكَةُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلامِ الظَّاهِرَةِ مَعَ نَوْعِ إِيمَانٍ يُصَحِّحُ لَهُم العَمَلَ؛ إِذْ لَوْلا هَذَا القَدْرِ مِن الإِيمانِ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وإنَّما نُفِيَ عَنْهُم الإِيمانُ؛ لانْتِفَاءِ ذَوْقِ حَقَائِقِهِ، ونَقْصِ بَعْضِ واجِبَاتِهِ.
وهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الْقَائِمَ بالقُلُوبِ مُتَفَاضِلٌ.
وهَذَا هوَ الصَّحِيحُ، وهوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ فإِنَّ إيمانَ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ يَتَجَلَّى الغَيْبُ لِقُلُوبِهِم حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ شَهَادَةٌ، بِحَيْثُ لا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ ولا الارْتِيَابَ، لَيْسَ كإِيمَانِ غَيْرِهم مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِحَيْثُ لَوْ شُكِّكَ لدَخَلَهُ الشَّكُّ.
ولِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَرْتَبَةَ الإِحْسَانِ أنْ يَعْبُدَ العَبْدُ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وهَذَا لا يَحْصُلُ لِعُمُومِ المُؤْمِنِينَ.
ومِنْ هنا قَالَ بَعْضُهُم:
مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلا صَلاةٍ، ولَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ.
وسُئِلَ ابنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَت الصَّحَابَةُ يَضْحَكُونَ؟
فَقَالَ: (نَعَمْ، والإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِم أَمْثَالُ الجِبَالِ).
فَأَيْنَ هَذَا مِمَّن الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ يَزِنُ ذَرَّةً أوْ شَعِيرَةً؟! كالَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ أهلِ التَّوحيدِ مِن النَّارِ، فهؤلاءِ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: لَمْ يَدْخُل الإِيمانُ فِي قُلُوبِهِم؛ لضَعْفِهِ عِنْدَهُم.
وهَذِهِ المَسَائِلُ -أَعْنِي مَسَائِلَ الإِسْلامِ والإِيمَانِ والكُفْرِ والنِّفَاقِ- مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ جِدًّا؛
فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ السَّعَادَةَ والشَّقَاوَةَ، واسْتِحْقَاقَ الجَنَّةِ والنَّارِ.
والاخْتِلافُ فِي مُسَمَّياتِهَا أوَّلُ اخْتِلافٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ، وهوَ خِلافُ الخَوَارِجِ للصَّحَابَةِ؛ حَيْثُ أَخْرَجُوا عُصَاةَ المُوَحِّدِينَ مِن الإِسْلامِ بالكُلِّيَّةِ، وأَدْخَلُوهُم فِي دَائِرَةِ الكُفْرِ، وعَامَلُوهُم مُعَامَلَةَ الكُفَّارِ، واسْتَحَلُّوا بذَلِكَ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ وأَمْوَالَهُم.
ثُمَّ حَدَثَ بعدَهم خِلافُ المُعْتَزِلَةِ
وقَوْلُهُم بالمَنْزِلَةِ بينَ المَنْزِلَتَيْنِ.
ثُمَّ حَدَثَ خِلافُ المُرْجِئَةِ وقَوْلُهم:
إِنَّ الفَاسِقَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الإِيمانِ.
وقَدْ صَنَّفَ العُلَمَاءُ قَدِيمًا وحَدِيثًا فِي هَذِهِ المَسَائِلِ تَصَانِيفَ مُتَعَدِّدةً، ومِمَّنْ صَنَّفَ فِي الإِيمانِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلفِ: الإِمامُ أَحْمَدُ، وأَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلامٍ، وأَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، ومُحَمَّدُ بنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ.
وكَثُرَتْ فيهِ التَّصَانِيفُ بَعْدَهُم مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، وقَدْ ذَكَرْنَا هَا هُنا نُكَتًا جَامِعَةً لأُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ المَسَائِلِ والاخْتِلافِ فيهَا، وفيهِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- كِفَايَةٌ.
فَصْلٌ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الإِسْلامِ ومُسَمَّى الإِيمَانِ أَيْضًا، وذَكَرْنَا مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، ويَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا أَيْضًا أَعْمَالُ الجَوَارِحِ البَاطِنَةِ.
فَيَدْخُلُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلامِ:
- إِخْلاصُ الدِّينِ للَّهِ .
- والنُّصْحُ لهُ ولعِبَادِهِ .
- وسَلامَةُ القَلْبِ لَهُم مِن الغِشِّ والحَسَدِ والحِقْدِ .
- وتَوَابعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الأَذَى.
ويَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الإِيمانِ:
- وَجَلُ القُلوبِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
- وخُشُوعُهَا عندَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وكِتَابِهِ .
-وزِيَادَةُ الإِيمانِ بذلكَ .
- وتَحْقِيقُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ .
- وخَوْفُ اللَّهِ سِرًّا وعَلانِيَةً .
- والرِّضَا باللَّهِ ربًّا، وبالإِسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَسُولاً .
- واخْتِيارُ تَلَفِ النُّفُوسِ بأَعْظَمِ أَنْواعِ الآلامِ علَى الكُفْرِ .
- واسْتِشْعَارُ قُرْبِ اللَّهِ مِن العَبْدِ، ودَوَامُ اسْتِحْضَارِهِ .
- وإِيثَارُ مَحَبَّةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُمَا .
- والمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ والبُغْضُ فِي اللَّهِ .
- والعَطَاءُ لهُ والمَنْعُ لهُ .
- وأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الحَرَكَاتِ والسَّكَناتِ لهُ .
- وسَمَاحَةُ النُّفوسِ بالطَّاعةِ المَالِيَّةِ والبَدَنِيَّةِ .
- والاسْتِبْشَارُ بعَمَلِ الحَسَنَاتِ والفَرَحُ بِهَا.
- وَالمَسَاءَةُ بعَمَلِ السَّيِّئاتِ والحُزْنُ عَلَيْهَا .
- وإِيثَارُ المُؤْمِنِينَ لرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِم وأَمْوَالِهِم.
- وكَثْرَةُ الحَيَاءِ.
- وحُسْنُ الخُلُقِ.
- ومَحَبَّةُ ما يُحِبُّهُ لنَفْسِهِ لإَِّخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ.
- ومُوَاسَاةُ المُؤْمِنِينَ خُصُوصًا الجِيرَانَ.
- ومُعَاضَدَةُ المُؤْمِنِينَ ومُنَاصَرَتُهُم، والحُزْنُ بِمَا يُحْزِنُهم.
ولْنَذْكُرْ بَعْضَ النُّصُوصِ الوَارِدَةِ بذَلِكَ:
فأَمَّا مَا وَرَدَ فِي دُخُولِهِ فِي اسْمِ الإِسْلامِ:
- ففي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ ) وَ(النَّسائِيِّ): عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ حَيْدَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ؟
قَالَ: ((الإِسْلامُ)).
قُلْتُ: وَمَا الإِسْلامُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَكَ إِلَى اللَّهِ، وَتُصَلِّيَ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ)).
- وفي رِوَايَةٍ لَهُ: قُلْتُ: وَمَا آيَةُ الإِسْلامِ؟
قَالَ: ((أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَتَخَلَّيْتُ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ حَرَامٌ)).
- وفي (السُّنَنِ): عَن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى: ((ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ:
- إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ.
- وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأُمُورِ.
- وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ))، فأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلاثَ الخِصَالَ تَنْفِي الغِلَّ عَنْ قَلْبِ المُسْلِمِ.
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أَبِي مُوسَى، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ سُئِلَ: أيُّ المُسْلِمينَ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: ((مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
- وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ فَلا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
وأمَّا ما وَرَدَ فِي دُخُولِهِ فِي اسْمِ الإِيمانِ:
- فمِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
- وقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].
- وقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
- وقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
- وقَوْلِهِ: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمرانَ: 175].
-وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عن العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً)).
والرِّضَا برُبُوبِيَّةِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ:
- الرِّضَا بعِبَادَتِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
- والرَّضَا بتَدْبِيرِهِ للعَبْدِ واخْتِيَارِهِ لَهُ.
والرِّضَا بالإِسْلامِ دِينًا يَقْتَضِي:
اخْتَيَارَهُ علَى سَائِرِ الأَدْيَانِ.
والرِّضا بِمُحَمَّدٍ رَسُولاً يَقْتَضِي:
الرِّضا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وقَبُولَ ذَلِكَ بالتَّسليمِ والانْشِرَاحِ.
- كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)).
- وفي رِوَايَةٍ: ((وَجَدَ بِهِنَّ طَعْمَ الإِيمَانِ)).
- وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((طَعْمَ الإِيمَانِ وَحَلاوتَهُ)).
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
- وفي رِوَايَةٍ: ((مِنْ أَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
- وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِيمَانُ؟
قَالَ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ تَحْتَرِقَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ، وَأَنْ تُحِبَّ غَيْرَ ذِي نَسَبٍ لا تُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ)).
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْلَمَ أَنِّي مُؤْمنٌ؟
قَالَ: ((مَا مِنْ أُمَّتِي -أَوْ هَذِهِ الأُمَّةِ- عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا حَسَنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَازِيهِ بِهَا خَيْرًا، وَلا يَعْمَلُ سَيِّئَةً، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَغْفِرُ إِلا هُوَ، إِلا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
- وفي (المُسْنَدِ) وغَيْرِهِ: عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
-وفي (مُسْنَدِ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ): عنْ رَجُلٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((صَرِيحُ الإِيمَانِ: إِذَا أَسْأَتَ أَوْ ظَلَمْتَ أَحَدًا؛ عَبْدَكَ أَوْ أَمَتَكَ أَوْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، صُمْتَ أَوْ تَصدَّقْتَ، وَإِذَا أَحْسَنْتَ اسْتَبْشَرْتَ)).
- وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلاثَةِ أَجْزَاءٍ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
- وفيهِ أيضًا: عنْ عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ قَالَ: قُلْتُ
- وَإِذَا رَأَيْتَ الْعُرَاةَ الْحُفَاةَ رُءُوسَ النَّاسِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا.
- وَإِذَا تَطَاوَلَ رِعَاءُ الْبَهْمِ فِي الْبُنْيَانِ فَذَاكَ مِنْ أَشْرَاطِهَا فِي خَمْسٍ لا يَعْلَمُهُنَّ إِلا اللَّهُ)).
ثُمَّ تَلا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لُقْمَان: 34].
قَالَ: ثُمَّ أَدْبَرَ الرَّجُلُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((عَلَيَّ بِالرَّجُلِ)).
فَأَخَذُوا لِيَرُدُّوهُ، فَلَمْ يَرَوْا شَيْئًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَ لِيُعَلِّمَ النَّاسَ دِينَهُمْ)).
وخَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بسِيَاقٍ أَتَمَّ مِنْ هَذَا.
وفيهِ في خِصَالِ الإِيمانِ: ((وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ كُلِّهِ)).
وقَالَ في الإِحْسَانِ: ((أَنْ تَخْشَى اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ)).
وخَرَّجهُ الإِمامُ أَحْمَدُ في (مُسْنَدِه) مِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ.
ومِنْ حَدِيثِ شَهْرِ بنِ حَوْشَبٍ أَيْضًا عَن ابنِ عَامِرٍ أوْ أَبِي عَامِرٍ، أوْ أَبِي مَالِكٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
وفي حَدِيثِهِ قَالَ: وَنَسْمَعُ رَجْعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَلا نَرَى الَّذِي يُكَلِّمُهُ، وَلا نَسْمَعُ كَلامَهُ.
وهَذَا يَرُدُّهُ حَدِيثُ عُمَرَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ، وهوَ أَصَحُّ.
وقَدْ رُوِيَ الحَدِيثُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ وجَرِيرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ البَجَلِيِّ وغَيْرِهِمَا.
وهوَ حَدِيثٌ عَظِيمٌ جِدًّا، يَشْتَمِلُ عَلَى شَرْحِ الدِّينِ كُلِّهِ ؛ ولِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في آخِرِهِ(هَذَا جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ))، بَعْدَ أنْ شَرَحَ دَرَجَةَ الإِسْلامِ ودَرَجَةَ الإِيمَانِ ودَرَجَةَ الإِحْسَانِ، فَجَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا.
واخْتَلَفَت الرِّوَايَةُ في تَقْدِيمِ الإِسْلامِ عَلَى الإِيمَانِ وعَكْسِهِ.
ففي حَدِيثِ عُمَرَ الَّذِي خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أنَّهُ بَدَأَ بالسُّؤَالِ عَن الإِسْلامِ.
وفي التِّرْمِذِيِّ وغَيْرِهِ أنَّهُ بَدَأَ بالسُّؤَالِ عن الإِيمَانِ، كَمَا في حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وجَاءَ في بَعْضِ رِوَايَاتِ حَدِيثِ عُمَرَ أنَّهُ سَأَلَ عَن الإِحْسَانِ بَيْنَ الإِسْلامِ والإِيمَانِ.
فَأَمَّا الإِسْلامُ، َقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بأَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ مِن القَوْلِ والعَمَلِ.
وأَوَّلُ ذَلِكَ: شَهَادَةُ أنْ لا إِلَهَ إلا اللَّهُ، وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وهوَ عَمَلُ اللِّسانِ.
- ثُمَّ إِقَامُ الصَّلاةِ.
- وإِيتاءُ الزَّكاةِ.
- وصَوْمُ رَمَضَانَ.
- وحَجُّ البَيْتِ لِمَن اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً.
وهيَ مُنْقَسِمَةٌ:
- إِلَى عَمَلٍ بَدَنِيٍّ كالصَّلاةِ والصَّوْمِ.
- وإِلَى عَمَلٍ مَالِيٍّ، وهوَ إِيتَاءُ الزَّكاةِ.
- وإِلَى مَا هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْهُما كالحَجِّ بالنِّسْبَةِ إِلَى البَعِيدِ عَنْ مَكَّةَ.
وفي رِوَايَةِ ابنِ حِبَّانَ أَضَافَ إِلَى ذَلِكَ:
- الاعْتِمَارَ.
- والغُسْلَ مِن الجَنَابَةِ.
- وإِتْمَامَ الوُضُوءِ.
وفي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الوَاجِبَاتِ الظَّاهِرَةِ دَاخِلَةٌ في مُسَمَّى الإِسْلامِ .
وإنَّما ذَكَرَ ها هُنا أُصُولَ أَعْمَالِ الإِسلامِ الَّتِي يَنْبَنِي الإِسْلامُ عَلَيْهَا، كَمَا سَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ في حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ: ((بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ)) في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وقَوْلُهُ في بَعْضِ الرَّواياتِ: فإِذَا فَعَلْتُ ذَلِكَ، فَأَنَا مُسْلِمٌ؟
قَالَ: ((نَعَمْ)).
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَنْ كَمَّلَ الإِتْيَانَ بِمَبَانِي الإِسْلامِ الخَمْسِ صَارَ مُسْلِمًا حَقًّا، مَعَ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بالشَّهَادَتَيْنِ صَارَ مُسْلِمًا حُكْمًا، فَإِذَا دَخَلَ في الإِسْلامِ بذلكَ أُلْزِمَ بالقِيَامِ ببَقِيَّةِ خِصالِ الإِسلامِ.
ومَنْ تَرَكَ الشَّهادَتَيْنِ خَرَجَ مِنَ الإِسلامِ.
وفي خُرُوجِهِ مِن الإِسْلامِ بتَرْكِ الصَّلاةِ خِلافٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ، وكَذَلِكَ في تَرْكِ بَقِيَّةِ مَبَانِي الإِسْلامِ الخَمْسِ، كَمَا سَنَذْكُرُهُ في مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تعالى.
ومِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ تَدْخُلُ في مُسَمَّى الإِسْلامِ
قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَمْروٍ، أنَّ رَجُلاً سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: أَيُّ الإِسْلامِ خَيْرٌ؟
قَالَ: ((أَنْ تُطْعِمَ الطَّعَامَ، وَتَقْرَأَ السَّلامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ)).
وفي (صَحِيحِ الحَاكِمِ): عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((إِنَّ لِلإِسْلامِ صُوًى وَمَنَارًا كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، مِنْ ذَلِكَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَلا تُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَالأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَتَسْلِيمُكَ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَا لَقِيتَهُمْ وَتَسْلِيمُكَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِكَ إِذَا دَخَلْتَ عَلَيْهِم، فَمَنِ انْتَقَصَ مِنْهُنَّ شَيْئًا فَهُوَ سَهْمٌ مِنَ الإِسْلامِ تَرَكَهُ، وَمَنْ يَتْرُكْهُنَّ فَقَدْ نَبَذَ الإِسْلامَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ)).
وخَرَّجَ ابْنُ مَرْدُويَهْ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لِلإِسْلامِ ضِيَاءٌ وَعَلامَاتٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ، فَرَأْسُهَا وَجِمَاعُهَا شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَتَمَامُ الْوُضُوءِ، وَالْحُكْمُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَاعَةُ وُلاةِ الأَمْرِ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى أَهْلِيكُمْ إِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتَكُمْ، وَتَسْلِيمُكُمْ عَلَى بَنِي آدَمَ إِذَاقِيتُمُوهُمْ )).
وفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ، ولَعَلَّهُ مَوْقُوفٌ .
وصَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي إِسْحَاقَ ، عَنْ صِلَةَ بنِ زُفَرَ، عنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: (الإِسْلامُ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ: الإِسلامُ سَهْمٌ، والصَّلاةُ سَهْمٌ، والزَّكَاةُ سَهْمٌ، وحَجُّ البَيْتِ سَهْمٌ، والجِهَادُ سَهْمٌ، وصَوْمُ رَمَضَانَ سَهْمٌ، والأَمْرُ بالمَعْرُوفِ سَهْمٌ، والنَّهْيُ عَن المُنْكَرِ سَهْمٌ، وخَابَ مَنْ لا سَهْمَ لَهُ).
وخَرَّجَهُ البَزَّارُ مَرْفُوعًا، والمَوْقُوفُ أَصَحُّ .
ورَوَاهُ بَعْضُهُمْ عَن أَبِي إِسْحَاقَ، عن الحَارِثِ عَن عَلِيٍّ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ.
خَرَّجَهُ أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ وغَيْرُهُ، والمَوْقُوفُ عَلَى حُذَيْفَةَ أَصَحُّ، قَالَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ وغَيْرُهُ.
وقَوْلُهُ: (الإِسْلامُ سَهْمٌ)، يَعْنِي: الشَّهَادَتَيْنِ؛ لأَِنَّهما عَلَمُ الإِسْلامِ، وبِهِمَا يَصِيرُ الإِنْسَانُ مُسْلِمًا.
وكَذَلِكَ تَرْكُ المُحَرَّمَاتِ دَاخِلٌ في مُسمَّى الإِسْلامِ أَيْضًا ، كَمَا رُوِيَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قَالَ: ((مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لا يَعْنِيهِ))، وسَيَأْتِي في مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا مَا خَرَّجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ والتِّرْمِذِيُّ والنَّسائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ، فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا، وَلا تَعْوَجُّوا.
وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ جَوْفِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لا تَفْتَحْهُ، فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ. وَالصِّرَاطُ: الإِسْلامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالأَبْوَابُ الْمُفتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقُ: وَاعِظُ اللَّهِ فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ)).
زَادَ التِّرْمِذِيُّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يونس: 25].
فَفِي هَذَا المَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أَنَّ الإِسْلامَ هوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بالاسْتِقَامَةِ عَلَيْهِ، ونَهَى عَن تَجَاوُزِ حُدُودِهِ، وأَنَّ مَن ارْتَكَبَ شَيْئًا مِن المُحَرَّماتِ فَقَدْ تَعَدَّى حُدُودَهُ.
وأَمَّا الإِيمَانُ، فَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ بِالاعْتِقَادَاتِ البَاطِنَةِ ، فَقَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
وقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ في كِتَابِهِ الإِيمانَ بِهَذِهِ الأُصُولِ الخَمْسَةِ في مَوَاضِعَ:
- كَقَوْلِهِ تَعَالَى:{آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285].
- وقَالَ تَعَالَى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} الآيَةَ [البقرة: 277].
- وقَالَ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة: 3-4].
والإِيمانُ بالرُّسُلِ يَلْزَمُ منهُ الإِيمانُ بِجَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بهِ مِن المَلائِكَةِ، والأَنْبِياءِ، والكِتَابِ، والبَعْثِ، والقَدَرِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ تَفَاصِيلِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وصِفَاتِ اليَوْمِ الآخِرِ، كالمِيزَانِ والصِّراطِ والجنَّةِ والنَّارِ.
وقَدْ أُدْخِلَ في الإِيمانِ الإِيمانُ بالقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ، ولأَِجْلِ هَذِهِ الكَلِمَةِ رَوَى ابنُ عُمَرَ هَذَا الحَدِيثَ مُحْتَجًّا بِهِ عَلَى مَنْ أنْكَرَ القَدَرَ وزَعَمَ أَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ، يَعْنِي: أنَّهُ مُسْتَأنَفٌ لَمْ يَسْبِقْ بِهِ سَابِقُ قَدَرٍ مِن اللَّهِ عزَّ وجلَّ.
وقَدْ غَلَّظَ ابنُ عُمَرَ عَلَيْهِم، وتَبَرَّأَ مِنْهُم، وأَخْبَرَ أَنَّهُ لا تُقْبَلُ منهم أَعْمَالُهُم بدُونِ الإِيمانِ بالقَدَرِ.
والإِيمانُ بالقَدَرِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: الإِيمانُ بأنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَقَ في عِلْمِهِ مَا يَعْمَلُهُ الْعِبَادُ مِنْ خَيْرٍ وشَرٍّ، وطَاعَةٍ ومَعْصِيَةٍ، قَبْلَ خَلْقِهِم وإِيجَادِهِم، ومَنْ هُوَ مِنْهُم مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ ومِنْ أهلِ النَّارِ، وأَعَدَّ لَهُم الثَّوابَ والعِقَابَ جَزَاءً لأَِعْمَالِهِم قَبْلَ خَلْقِهِم وتَكْوِينِهِم، وأنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ عندَهُ وأَحْصَاهُ، وأنَّ أَعْمالَ العِبَادِ تَجْرِي عَلَى مَا سَبَقَ في عِلْمِهِ وكِتَابِهِ.
والدَّرَجَةُ الثَّانِيَةُ: أنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَفْعَالَ عِبَادِهِ كُلَّهَا مِن الكُفْرِ والإِيمانِ، والطَّاعةِ والعِصْيانِ، وشَاءَها مِنْهُم.
فهذهِ الدَّرَجَةُ يُثْبِتُها أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ، ويُنْكِرُهَا القَدَرِيَّةُ.
والدَّرَجَةُ الأُولَى أَثْبَتَهَا كَثِيرٌ مِن القَدَرِيَّةِ، ونَفَاهَا غُلاتُهم، كمَعْبَدٍ الجُهَنِيِّ، الَّذِي سُئِلَ ابنُ عُمَرَ عَنْ مَقَالَتِهِ، وكعمرِو بنِ عُبَيْدٍ وغَيْرِهِ.
وقَدْ قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ:
نَاظِرُوا القَدَرِيَّةَ بالعِلْمِ، فَإِنْ أَقَرُّوا بهِ خُصِمُوا، وإنْ جَحَدُوهُ فَقَدْ كَفَرُوا.
يُرِيدُونَ أَنَّ مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ السَّابِقَ بأَفْعَالِ العِبَادِ ، وأَنَّ اللَّهَ قَسَّمَهُم قَبْلَ خَلْقِهِمْ إِلَى شَقِيٍّ وسَعِيدٍ، وكَتَبَ ذَلِكَ عِنْدَهُ في كِتَابٍ حَفِيظٍ، فَقَدْ كَذَّبَ بالقُرْآنِ، فيَكْفُرُ بذلكَ، وإنْ أَقَرُّوا بذَلِكَ وأَنْكَرُوا أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ أَفْعَالَ عِبَادِهِ وشَاءَها، وأَرَادَها مِنْهُم إِرَادَةً كَوْنِيَّةً قَدَرِيَّةً، فَقَدْ خُصِمُوا؛ لأَِنَّ مَا أَقَرُّوا بِهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِم فيما أَنْكَرُوهُ.
وفي تَكْفِيرِ هؤلاءِ نِزَاعٌ مَشْهُورٌ بَيْنَ العُلَمَاءِ.
وأمَّا مَنْ أَنْكَرَ العِلْمَ القَدِيمَ، فنَصَّ الشَّافِعِيُّ وأَحْمَدُ عَلَى تَكْفِيرِهِ، وكَذَلِكَ غَيْرُهما مِنْ أَئِمَّةِ الإِسْلامِ.
فإنْ قِيلَ:
فَقَدْ فَرَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في هَذَا الحَدِيثِ بَيْنَ الإِسْلامِ والإِيمانِ،
وجَعَلَ الأَعْمَالَ كُلَّها مِن الإِسْلامِ، لا مِن الإِيمانِ.
والمَشْهُورُ عَن السَّلَفِ وأَهْلِ الحَدِيثِ أنَّ الإِيمَانَ:
قَوْلٌ وَعَمَلٌ ونِيَّةٌ، وأَنَّ الأَعْمَالَ كُلَّها دَاخِلَةٌ في مُسَمَّى الإِيمانِ.
وحَكَى الشَّافِعِيُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعَ الصَّحَابَةِ والتَّابِعِينَ ومَنْ بَعْدَهُم مِمَّنْ أَدْرَكَهُم.
وأَنْكَرَ السَّلَفُ عَلَى مَنْ أَخْرَجَ الأَعْمَالَ عَن الإِيمانِ إِنْكَارًا شَدِيدًا.
ومِمَّن أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَى قَائِلِهِ، وجَعَلَهُ قَوْلاً مُحْدَثًا:
سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ، ومَيْمُونُ بنُ مِهْرَانَ، وقَتَادَةُ، وأَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ، وإِبْرَاهِيمُ النَّخَعَيُّ، والزُّهْرِيُّ، ويَحْيَى بنُ أَبِي كَثِيرٍ، وغَيْرُهم.
وقَالَ الثَّوْرِيُّ: (هوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ، أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ).
وقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: (كَانَ مَنْ مَضَى مِمَّنْ سَلَفَ لا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الإِيمَانِ والعَمَلِ).
وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى أَهْلِ الأَمْصَارِ: (أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ للإِيمَانِ فَرَائِضَ وشَرَائِعَ وحُدُودًا وسُنَنًا، فمَن اسْتَكْمَلَها اسْتَكْمَلَ الإِيمانَ، ومَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِل الإِيمانَ).
ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ).
قِيلَ: الأَمْرُ عَلَى ما ذَكَرَهُ.
وقَدْ دَلَّ عَلَى دُخُولِ الأَعْمَالِ في الإِيمانِ:
- قَوْلُهُ تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
- وفي (الصَّحيحَيْنِ): عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّ النَّبِيَّ صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ قَالَ لِوَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ: ((آمُرُكُمْ بَأَرْبَعٍ: الإِيمَانِ بِاللَّهِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا الإِيمَانُ بِاللَّهِ؟ شَهَادَةُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَإِقَامُ الصَّلاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ، وَأَنْ تُعْطُوا مِنَ الْمَغْنَمِ الْخُمُسَ)).
- وفي (الصَّحيحَيْنِ): عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ، أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ))، ولفْظُهُ لِمُسْلِمٍ.
- وفي (الصَّحيحَيْنِ): عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
فَلَوْلا أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ الكَبائِرِ مِنْ مُسَمَّى الإِيمانِ لَمَا انْتَفَى اسْمُ الإِيمانِ عنْ مُرْتَكِبِ شيءٍ منهَا ؛ لأَِنَّ الاسْمَ لا يَنْتَفِي إلا بانْتِفَاءِ بَعْضِ أَرْكَانِ المُسَمَّى أوْ واجِبَاتِهِ.
وأَمَّا وَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ هذهِ النُّصوصِ وبَيْنَ حَدِيثِ سُؤالِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ
عَن الإِسْلامِ والإِيمانِ، وتَفْرِيقِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَيْنَهُمَا، وإِدْخَالِهِ الأَعْمَالَ في مُسمَّى الإِسلامِ دُونَ مُسمَّى الإِيمانِ؛ فإنَّهُ يَتَّضِحُ بتَقْرِيرِ أَصْلٍ:
وهوَ:
أَنَّ مِن الأَسْمَاءِ ما يَكُونُ شَامِلاً لمُسَمَّياتٍ مُتَعَدِّدَةٍ عندَ إِفْرَادِهِ وإِطْلاقِهِ، فَإِذَا قُرِنَ ذَلِكَ الاسْمُ بغَيْرِهِ صَارَ دَالاًّ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ المُسَمَّياتِ، والاسمُ المَقْرُونُ بِهِ دَالٌّ عَلَى باقِيهَا.
وهَذَا كاسْمِ الفَقِيرِ والمِسْكِينِ:
- فإِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُما:
دَخَلَ فيهِ كُلُّ مَنْ هوَ مُحْتَاجٌ.
- فإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُما بالآخَرِ:
دَلَّ أَحَدُ الاسْمَيْنِ عَلَى بَعْضِ أَنْواعِ ذَوِي الحَاجَاتِ، والآخَرُ عَلَى بَاقِيهَا.
فهكَذَا اسْمُ الإِسْلامِ والإِيمَانِ:
إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُما دَخَلَ فيهِ الآخَرُ، ودَلَّ بانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الآخَرُ بانْفِرَادِهِ، فإِذَا قُرِنَ بينَهُما دلَّ أَحَدُهُما عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بانْفِرَادِهِ، ودَلَّ الآخَرُ عَلَى البَاقِي.
وقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا المَعْنَى جَمَاعَةٌ مِن الأَئِمَّةِ.
َالَ أَبُو بَكْرٍ الإِسْمَاعِيلِيُّ في رِسَالَتِهِ إِلَى أَهْلِ الجَبَلِ: (قَالَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ: إِنَّ الإِيمانَ قَوْلٌ وعَمَلٌ، والإِسْلامَ فِعْلُ مَا فُرِضَ عَلَى الإِنْسَانِ أنْ يَفْعَلَهُ، إِذَا ذُكِرَ كُلُّ اسمٍ عَلَى حِدَتِهِ مَضْمُومًا إلى الآخَرِ، فقِيلَ: المُؤْمِنُونَ والمُسْلِمونَ، جَمِيعًا مُفْرَدَيْنِ، أُرِيدَ بأَحَدِهِمَا مَعْنًى لَمْ يُرَدْ بالآخَرِ، وإِذَا ذُكِرَ أَحَدُ الاسْمَيْنِ شَمِلَ الكُلَّ وعَمَّهُم).
وقَدْ ذَكَرَ هَذَا المَعْنَى أيضًا الخَطَّابِيُّ في كِتَابِهِ (مَعَالِمِ السُّنَنِ)، وتَبِعَهُ عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِن العُلَمَاءِ مِنْ بَعْدِهِ.
ويَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَسَّرَ الإِيمَانَ عِنْدَ ذِكْرِهِ مُفْرَدًا في حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الإِسلامَ المَقْرُونَ بالإِيمانِ في حديثِ جِبْرِيلَ.
وفَسَّرَ في حَدِيثٍ آخَرَ الإِسْلامَ بِمَا فَسَّرَ بِهِ الإِيمانَ، كما في (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عَن عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِسْلامُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ يَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِكَ وَيَدِكَ)).
قَالَ: فَأَيُّ الإِسْلامِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((الإِيمَانُ)).
قَالَ: وَمَا الإِيمانُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ)).
قَالَ: فَأَيُّ الإِيمانِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: ((الْهِجْرَةُ)).
قَالَ: فَما الهِجْرَةُ؟
قَالَ: ((أَنْ تَهْجُرَ السُّوءَ)).
قَالَ: فَأَيُّ الهِجْرَةِ أَفْضَلُ؟
قالَ: ((الْجِهَادُ)).
فجَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الإِيمانَ أَفْضَلَ الإِسْلامِ، وأَدْخَلَ فيهِ الأَعْمَالَ.
وبِهَذَا التَّفْصِيلِ يَظْهَرُ تَحْقِيقُ القَوْلِ في مَسْأَلَةِ الإِسْلامِ والإِيمَانِ:
هلْ هُمَا واحِدٌ، أوْ هُمَا مُخْتَلِفَانِ؟
فإِنَّ أَهْلَ السُّنَّةِ والحَدِيثِ مُخْتَلِفُونَ في ذَلِكَ ، وصَنَّفُوا في ذَلِكَ تَصَانِيفَ مُتَعَدِّدَةً.
فمِنْهُم مَنْ يَدَّعِي أنَّ جُمْهُورَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى أنَّهُما شَيْءٌ واحِدٌ:
مِنْهُم مُحَمَّدُ بنُ نَصْرٍ الْمَرْوَزِيُّ، وابنُ عَبْدِ البَرِّ.
وقَدْ رُوِيَ هَذَا القَوْلُ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَيُّوبَ بنِ سُوَيْدٍ الرَّمْلِيِّ عنهُ، وأيُّوبُ فيهِ ضَعْفٌ.
ومنهم مَنْ يَحْكِي عَنْ أَهْلِ السُّنَّةِ التَّفْرِيقَ بينَهُما:
كأَبِي بَكْرِ بْنِ السَّمْعَانِيِّ وغَيْرِهِ.
وقَدْ نُقِلَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُما عَنْ كَثِيرٍ مِن السَّلَفِ ، منهم قَتَادَةُ، ودَاودُ بنُ أَبِي هِنْدٍ، وأَبُو جَعْفَرٍ البَاقِرُ، والزُّهْرِيُّ، وحَمَّادُ بنُ زَيْدٍ، وابْنُ مَهْدِيٍّ، وشَرِيكٌ، وابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، وأَحْمَدُ بنُ حَنْبَلٍ، وأبو خَيْثَمَةَ، ويَحْيَى بنُ مَعِينٍ، وغَيْرُهم، على اختلافٍ بينَهم في صِفَةِ التَّفْرِيقِ بينَهُما.
وكَانَ الحَسَنُ وابْنُ سِيرِينَ يَقُولانِ: (مُسْلِمٌ)، ويَهَابَانِ: (مُؤْمِنٌ).
وبِهَذَا التَّفْصِيلِ الَّذي ذَكَرْنَاهُ يَزُولُ الاخْتِلافُ.
فيُقَالُ: إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِن الإِسْلامِ والإِيمَانِ بالذِّكْرِ فَلا فَرْقَ بَيْنَهُما حِينَئذٍ، وإِنْ قُرِنَ بَيْنَ الاسْمَيْنِ كَانَ بينَهما فَرْقٌ.
والتَّحْقِيقُ في الفَرْقِ بينَهُما :
- أَنَّ الإِيمانَ: هوَ تَصْدِيقُ القَلْبِ وإِقْرَارُهُ ومَعْرِفَتُهُ.
- والإِسلامَ: هوَ اسْتِسْلامُ العَبْدِ لِلَّهِ وخُضُوعُهُ وانْقِيَادُهُ لَهُ، وذَلِكَ يَكُونُ بالعَمَلِ، وهوَ الدِّينُ، كَمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى في كِتَابِهِ الإِسْلامَ دِينًا، وفى حَدِيثِ جِبْرِيلَ سَمَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ الإِسْلامَ والإِيمَانَ والإِحْسَانَ دِينًا.
وهَذَا أَيْضًا مِمَّا يَدُلُّ علَى أنَّ أَحَدَ الاسْمَيْنِ إِذَا أُفْرِدَ دَخَلَ فيهِ الآخَرُ، وإنَّما يُفَرَّقُ بَيْنَهُما حَيْثُ قُرِنَ أَحَدُ الاسْمَيْنِ بالآخَرِ، فيَكُونُ حينَئذٍ المُرَادُ بالإِيمانِ جِنْسَ تَصْدِيقِ القَلْبِ، وبالإِسْلامِ جِنْسَ العَمَلِ.
وفِي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عَنْ أنسٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الإِسْلامُ عَلانِيَةٌ، وَالإِيمَانُ فِي الْقَلْبِ)).
وهَذَا لأَِنَّ الأَعْمَالَ تَظْهَرُ عَلانِيَةً، والتَّصْدِيقَ في القَلْبِ لا يَظْهَرُ.
وكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ في دُعَائِهِ إِذَا صَلَّى عَلَى المَيِّتِ: ((اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الإِسْلامِ، وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الإِيمَانِ)) لأَِنَّ العَمَلَ بالجَوَارِحِ إِنَّمَا يُتَمَكَّنُ منهُ في الحَيَاةِ، فأَمَّا عندَ الموتِ فَلا يَبْقَى غَيْرُ التَّصْدِيقِ بالقَلْبِ.
ومِنْ هُنا قَالَ المُحَقِّقونَ مِن العُلَماءِ:
كُلُّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ؛ فإِنَّ مَنْ حَقَّقَ الإِيمَانَ، ورَسَخَ في قَلْبِهِ، قَامَ بأَعْمَالِ الإِسْلامِ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلا وَهِيَ الْقَلبُ)).
فَلا يَتَحَقَّقُ الْقَلْبُ بِالإِيمَانِ إِلا وَتَنْبَعِثُ الْجَوَارِحُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلامِ.
ولَيْسَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُؤْمِنًا؛ فإنَّهُ قَدْ يَكُونُ الإِيمانُ ضَعِيفًا، فَلا يَتَحَقَّقُ القَلْبُ بِهِ تَحَقُّقًا تَامًّا مَعَ عَمَلِ جَوَارِحِهِ بأعْمَالِ الإِسلامِ، فيَكُونُ مُسْلِمًا ولَيْسَ بِمُؤْمِنٍ الإِيمانَ التَّامَّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحُجُرَات: 14]، ولَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ بِالْكُلِّيَّةِ عَلَى أَصَحِّ التَّفْسِيرَيْنِ، وهوَ قَوْلُ ابنِ عبَّاسٍ وغَيْرِهِ، بلْ كَانَ إِيمَانُهم ضَعِيفًا.
ويَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحُجُرات: 14].
يَعْنِي: لا يَنْقُصُكُم مِنْ أُجُورِهَا، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَعَهُم مِن الإِيمانِ مَا تُقْبَلُ بِهِ أَعْمَالُهُم.
وكَذَلِكَ: قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ لسَعْدِ بنِ أَبِي وقَّاصٍ لَمَّا قَالَ لَهُ: لَمْ تُعْطِ فُلانًا وهوَ مُؤْمِنٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَوْ مُسْلِمٌ)) يُشِيرُ إِلَى أنَّهُ لَمْ يُحَقِّقْ مَقَامَ الإِيمانِ، وإنَّما هوَ فِي مَقَامِ الإِسْلامِ الظَّاهِرِ.
ولا رَيْبَ أنَّهُ مَتَى ضَعُفَ الإِيمانُ البَاطِنُ لَزِمَ منهُ ضَعْفُ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ أيضًا ، لكنَّ اسْمَ الإِيمانِ يُنْفَى عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: ((لا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
وقَد اخْتَلَفَ أَهْلُ السُّنَّةِ:
هَلْ يُسَمَّى مُؤْمِنًا نَاقِصَ الإِيمانِ، أوْ يُقَالُ: لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ لَكِنَّهُ مُسْلِمٌ، عَلَى قَوْلَيْنِ، وهُمَا رِوَايَتَانِ عَنْ أَحْمَدَ.
وأَمَّا اسْمُ الإِسْلامِ ، فَلا يَنْتَفِي بانْتِفَاءِ بَعْضِ واجِبَاتِهِ، أو انْتِهَاكِ بَعْضِ مُحَرَّمَاتِهِ.
وإنَّما يُنْفَى بالإِتْيانِ بِمَا يُنافِيهِ بالكُلِّيَّةِ.
ولا يُعرَفُ فِي شَيْءٍ مِن السُّنَّةِ الصَّحيحةِ نَفْيُ الإِسْلامِ عَمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، كَمَا يُنْفَى الإِيمانُ عمَّنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ وَاجِبَاتِهِ، وإِنْ كَانَ قَدْ وَرَدَ إِطْلاقُ الكُفْرِ علَى فِعْلِ بَعْضِ المُحَرَّماتِ، وإِطْلاقُ النِّفَاقِ أيضًا.
واخْتَلَفَ العُلَماءُ:
هَلْ يُسَمَّى مُرْتَكِبُ الكَبَائِرِ كَافِرًا كُفْرًا أَصْغَرَ أوْ مُنَافِقًا النِّفَاقَ الأَصْغَرَ.
ولا أَعْلَمُ أنَّ أَحَدًا منهم أَجَازَ إِطْلاقَ نَفْيِ اسْمِ الإِسْلامِ عنْهُ، إلا أَنَّهُ رُوِيَ عن ابنِ مَسْعُودٍ أنَّهُ قَالَ: (مَا تَارِكُ الزَّكَاةِ بِمُسْلِمٍ).
ويَحْتَمِلُ أنَّهُ كَانَ يَرَاهُ كَافِرًا بذَلِكَ خَارِجًا مِن الإِسْلامِ.
وكَذَلِكَ: رُوِيَ عَنْ عُمَرَ فِيمَنْ تَمَكَّنَ مِن الحَجِّ وَلَمْ يَحُجَّ (أَنَّهُم لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ).
والظَّاهِرُ أنَّهُ كَانَ يَعْتَقِدُ كُفْرَهم؛ ولِهَذَا أَرَادَ أَنْ يَضْرِبَ عَلَيْهِم الجِزْيَةَ يَقُولُ: لَمْ يَدْخُلُوا فِي الإِسْلامِ بَعْدُ، فَهُم مُسْتَمِرُّونَ عَلَى كِتَابِيَّتِهِم.
وإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اسْمَ الإِسْلامِ لا يَنْتَفِي إلا بوُجُودِ ما يُنافِيهِ
ويُخْرِجُ عن المِلَّةِ بالكُلِّيَّةِ، فاسمُ الإِسلامِ إِذَا أُطْلِقَ أو اقْتَرَنَ بهِ المَدْحُ دَخَلَ فيهِ الإِيمانُ كُلُّهُ مِن التَّصْدِيقِ وغَيْرِهِ، كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ.
وخَرَّجَ النَّسائِيُّ مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بنِ مَالِكٍ، أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعَثَ سَرِيَّةً، فَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُم: إِنِّي مُسْلِمٌ، فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِن السَّريَّةِ، فَنُمِيَ الحديثُ إِلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فَقَالَ فيهِ قَوْلاً شَدِيدًا، فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّما قَالَهَا تَعَوُّذًا مِن القَتْلِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ مُؤْمِنًا)) ثَلاثَ مَرَّاتٍ.
فلَوْلا أَنَّ الإِسْلامَ المُطْلَقَ يَدْخُلُ فيهِ الإِيمَانُ والتَّصْدِيقُ بالأُصُولِ الخَمْسَةِ، لَمْ يَصِرْ مَنْ قَالَ: أَنَا مُسْلِمٌ، مُؤْمِنًا بِمُجَرَّدِ هَذَا القَوْلِ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عنْ مَلِكَةِ سَبَأٍ أنَّهَا دَخَلَتْ فِي الإِسْلامِ بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ: {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44].
وأَخْبَرَ عنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ دَعَا بالمَوْتِ عَلَى الإِسْلامِ.
وهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الإِسْلامَ المُطْلَقَ يَدْخُلُ فيهِ مَا يَدْخُلُ فِي الإِيمَانِ مِن التَّصْدِيقِ.
وفي (سُنَنِ ابنِ مَاجَهْ): عنْ عَدِيِّ بنِ حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((يَا عَدِيُّ، أَسْلِمْ تَسْلَمْ)).
قُلْتُ: وَمَا الإِسْلامُ؟
قَالَ: ((تَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، وَتُؤْمِنُ بِالأَقْدَارِ كُلِّهَا؛ خَيْرِهَا وَشَرِّهَا، حُلْوِهَا وَمُرِّهَا)).
فهذا نَصٌّ فِي أنَّ الإِيمَانَ بالقَدَرِ مِن الإِسْلامِ.
ثُمَّ إِنَّ الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ خِصَالِ الإِسْلامِ بِغَيْرِ نِزَاعٍ ، ولَيْسَ المُرَادُ الإِتْيانَ بِلَفْظِهِمَا دُونَ التَّصْدِيقِ بِهِمَا، فَعُلِمَ أنَّ التَّصْدِيقَ بِهِمَا دَاخِلٌ فِي الإِسْلامِ.
وقَدْ فَسَّرَ الإِسْلامَ المَذْكُورَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمرانَ: 19] بالتَّوحِيدِ والتَّصْدِيقِ طَائِفَةٌ مِن السَّلَفِ؛ مِنْهُم مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرِ بنِ الزُّبَيْرِ.
وأَمَّا إِذَا نُفِيَ الإِيمَانُ عَنْ أَحَدٍ وأُثْبِتَ لَهُ الإِسْلامُ ، كالأَعْرَابِ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُم؛ فَإِنَّهُ يَنْتَفِي رُسُوخُ الإِيمانِ فِي القَلْبِ، وتَثْبُتُ لَهُم المُشَارَكَةُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلامِ الظَّاهِرَةِ مَعَ نَوْعِ إِيمَانٍ يُصَحِّحُ لَهُم العَمَلَ؛ إِذْ لَوْلا هَذَا القَدْرِ مِن الإِيمانِ لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ، وإنَّما نُفِيَ عَنْهُم الإِيمانُ؛ لانْتِفَاءِ ذَوْقِ حَقَائِقِهِ، ونَقْصِ بَعْضِ واجِبَاتِهِ.
وهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّصْدِيقَ الْقَائِمَ بالقُلُوبِ مُتَفَاضِلٌ.
وهَذَا هوَ الصَّحِيحُ، وهوَ أَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ؛ فإِنَّ إيمانَ الصِّدِّيقِينَ الَّذِينَ يَتَجَلَّى الغَيْبُ لِقُلُوبِهِم حَتَّى يَصِيرَ كَأَنَّهُ شَهَادَةٌ، بِحَيْثُ لا يَقْبَلُ التَّشْكِيكَ ولا الارْتِيَابَ، لَيْسَ كإِيمَانِ غَيْرِهم مِمَّنْ لَمْ يَبْلُغْ هَذِهِ الدَّرَجَةَ بِحَيْثُ لَوْ شُكِّكَ لدَخَلَهُ الشَّكُّ.
ولِهَذَا جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مَرْتَبَةَ الإِحْسَانِ أنْ يَعْبُدَ العَبْدُ رَبَّهُ كَأَنَّهُ يَرَاهُ، وهَذَا لا يَحْصُلُ لِعُمُومِ المُؤْمِنِينَ.
ومِنْ هنا قَالَ بَعْضُهُم:
مَا سَبَقَكُمْ أَبُو بَكْرٍ بِكَثْرَةِ صَوْمٍ وَلا صَلاةٍ، ولَكِنْ بِشَيْءٍ وَقَرَ فِي صَدْرِهِ.
وسُئِلَ ابنُ عُمَرَ: هَلْ كَانَت الصَّحَابَةُ يَضْحَكُونَ؟
فَقَالَ: (نَعَمْ، والإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِم أَمْثَالُ الجِبَالِ).
فَأَيْنَ هَذَا مِمَّن الإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ يَزِنُ ذَرَّةً أوْ شَعِيرَةً؟! كالَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ أهلِ التَّوحيدِ مِن النَّارِ، فهؤلاءِ يَصِحُّ أنْ يُقالَ: لَمْ يَدْخُل الإِيمانُ فِي قُلُوبِهِم؛ لضَعْفِهِ عِنْدَهُم.
وهَذِهِ المَسَائِلُ -أَعْنِي مَسَائِلَ الإِسْلامِ والإِيمَانِ والكُفْرِ والنِّفَاقِ- مَسَائِلُ عَظِيمَةٌ جِدًّا؛
فَإِنَّ اللَّهَ عَلَّقَ بِهَذِهِ الأَسْمَاءِ السَّعَادَةَ والشَّقَاوَةَ، واسْتِحْقَاقَ الجَنَّةِ والنَّارِ.
والاخْتِلافُ فِي مُسَمَّياتِهَا أوَّلُ اخْتِلافٍ وَقَعَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ ، وهوَ خِلافُ الخَوَارِجِ للصَّحَابَةِ؛ حَيْثُ أَخْرَجُوا عُصَاةَ المُوَحِّدِينَ مِن الإِسْلامِ بالكُلِّيَّةِ، وأَدْخَلُوهُم فِي دَائِرَةِ الكُفْرِ، وعَامَلُوهُم مُعَامَلَةَ الكُفَّارِ، واسْتَحَلُّوا بذَلِكَ دِمَاءَ المُسْلِمِينَ وأَمْوَالَهُم.
ثُمَّ حَدَثَ بعدَهم خِلافُ المُعْتَزِلَةِ
وقَوْلُهُم بالمَنْزِلَةِ بينَ المَنْزِلَتَيْنِ.
ثُمَّ حَدَثَ خِلافُ المُرْجِئَةِ وقَوْلُهم:
إِنَّ الفَاسِقَ مُؤْمِنٌ كَامِلُ الإِيمانِ.
وقَدْ صَنَّفَ العُلَمَاءُ قَدِيمًا وحَدِيثًا فِي هَذِهِ المَسَائِلِ تَصَانِيفَ مُتَعَدِّدةً، ومِمَّنْ صَنَّفَ فِي الإِيمانِ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلفِ: الإِمامُ أَحْمَدُ، وأَبُو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سَلامٍ، وأَبُو بَكْرِ بنُ أَبِي شَيْبَةَ، ومُحَمَّدُ بنُ أَسْلَمَ الطُّوسِيُّ.
وكَثُرَتْ فيهِ التَّصَانِيفُ بَعْدَهُم مِنْ جَمِيعِ الطَّوَائِفِ، وقَدْ ذَكَرْنَا هَا هُنا نُكَتًا جَامِعَةً لأُصُولٍ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذِهِ المَسَائِلِ والاخْتِلافِ فيهَا، وفيهِ -إِنْ شَاءَ اللَّهُ- كِفَايَةٌ.
فَصْلٌ
قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الأَعْمَالَ تَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الإِسْلامِ ومُسَمَّى الإِيمَانِ أَيْضًا، وذَكَرْنَا مَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، ويَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا أَيْضًا أَعْمَالُ الجَوَارِحِ البَاطِنَةِ.
فَيَدْخُلُ فِي أَعْمَالِ الإِسْلامِ:
- إِخْلاصُ الدِّينِ للَّهِ .
- والنُّصْحُ لهُ ولعِبَادِهِ .
- وسَلامَةُ القَلْبِ لَهُم مِن الغِشِّ والحَسَدِ والحِقْدِ .
- وتَوَابعُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الأَذَى.
ويَدْخُلُ فِي مُسَمَّى الإِيمانِ:
- وَجَلُ القُلوبِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ .
- وخُشُوعُهَا عندَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ وكِتَابِهِ .
-وزِيَادَةُ الإِيمانِ بذلكَ .
- وتَحْقِيقُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ .
- وخَوْفُ اللَّهِ سِرًّا وعَلانِيَةً .
- والرِّضَا باللَّهِ ربًّا، وبالإِسْلامِ دِينًا، وبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ رَسُولاً .
- واخْتِيارُ تَلَفِ النُّفُوسِ بأَعْظَمِ أَنْواعِ الآلامِ علَى الكُفْرِ .
- واسْتِشْعَارُ قُرْبِ اللَّهِ مِن العَبْدِ، ودَوَامُ اسْتِحْضَارِهِ .
- وإِيثَارُ مَحَبَّةِ اللَّهِ ورَسُولِهِ عَلَى مَحَبَّةِ مَا سِوَاهُمَا .
- والمَحَبَّةُ فِي اللَّهِ والبُغْضُ فِي اللَّهِ .
- والعَطَاءُ لهُ والمَنْعُ لهُ .
- وأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الحَرَكَاتِ والسَّكَناتِ لهُ .
- وسَمَاحَةُ النُّفوسِ بالطَّاعةِ المَالِيَّةِ والبَدَنِيَّةِ .
- والاسْتِبْشَارُ بعَمَلِ الحَسَنَاتِ والفَرَحُ بِهَا.
- وَالمَسَاءَةُ بعَمَلِ السَّيِّئاتِ والحُزْنُ عَلَيْهَا .
- وإِيثَارُ المُؤْمِنِينَ لرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَى أَنْفُسِهِم وأَمْوَالِهِم.
- وكَثْرَةُ الحَيَاءِ.
- وحُسْنُ الخُلُقِ.
- ومَحَبَّةُ ما يُحِبُّهُ لنَفْسِهِ لإَِّخْوَانِهِ المُؤْمِنِينَ.
- ومُوَاسَاةُ المُؤْمِنِينَ خُصُوصًا الجِيرَانَ.
- ومُعَاضَدَةُ المُؤْمِنِينَ ومُنَاصَرَتُهُم، والحُزْنُ بِمَا يُحْزِنُهم.
ولْنَذْكُرْ بَعْضَ النُّصُوصِ الوَارِدَةِ بذَلِكَ:
فأَمَّا مَا وَرَدَ فِي دُخُولِهِ فِي اسْمِ الإِسْلامِ:
- ففي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ ) وَ(النَّسائِيِّ): عنْ مُعَاوِيَةَ بنِ حَيْدَةَ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ما الَّذِي بَعَثَكَ بِهِ؟
قَالَ: ((الإِسْلامُ)).
قُلْتُ: وَمَا الإِسْلامُ؟
قَالَ: ((أَنْ تُسْلِمَ قَلْبَكَ لِلَّهِ، وَأَنْ تُوَجِّهَ وَجْهَكَ إِلَى اللَّهِ، وَتُصَلِّيَ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ)).
- وفي رِوَايَةٍ لَهُ: قُلْتُ: وَمَا آيَةُ الإِسْلامِ؟
قَالَ: ((أَنْ تَقُولَ: أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَتَخَلَّيْتُ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ عَلَى مُسْلِمٍ حَرَامٌ)).
- وفي (السُّنَنِ): عَن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أنَّهُ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِالْخَيْفِ مِنْ مِنًى: ((ثَلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ مُسْلِمٍ:
- إِخْلاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ.
- وَمُنَاصَحَةُ وُلاةِ الأُمُورِ.
- وَلُزُومُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ؛ فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ))، فأَخْبَرَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلاثَ الخِصَالَ تَنْفِي الغِلَّ عَنْ قَلْبِ المُسْلِمِ.
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أَبِي مُوسَى، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ سُئِلَ: أيُّ المُسْلِمينَ أَفْضَلُ؟
فَقَالَ: ((مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ)).
- وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ؛ فَلا يَظْلِمُهُ، وَلا يَخْذُلُهُ، وَلا يَحْقِرُهُ، بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ. كُلُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ حَرَامٌ: دَمُهُ، وَمَالُهُ، وَعِرْضُهُ)).
وأمَّا ما وَرَدَ فِي دُخُولِهِ فِي اسْمِ الإِيمانِ:
- فمِثْلُ قَوْلِهِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا} [الأنفال: 2-4].
- وقَوْلِهِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16].
- وقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}.
- وقَوْلِهِ: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23].
- وقَوْلِهِ: {وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمرانَ: 175].
-وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عن العَبَّاسِ بنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((ذَاقَ طَعْمَ الإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وَبِالإِسْلامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولاً)).
والرِّضَا برُبُوبِيَّةِ اللَّهِ يَتَضَمَّنُ:
- الرِّضَا بعِبَادَتِهِ وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ.
- والرَّضَا بتَدْبِيرِهِ للعَبْدِ واخْتِيَارِهِ لَهُ.
والرِّضَا بالإِسْلامِ دِينًا يَقْتَضِي:
اخْتَيَارَهُ علَى سَائِرِ الأَدْيَانِ.
والرِّضا بِمُحَمَّدٍ رَسُولاً يَقْتَضِي:
الرِّضا بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وقَبُولَ ذَلِكَ بالتَّسليمِ والانْشِرَاحِ.
- كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلاوَةَ الإِيمَانِ: مَنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لا يُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ)).
- وفي رِوَايَةٍ: ((وَجَدَ بِهِنَّ طَعْمَ الإِيمَانِ)).
- وفي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: ((طَعْمَ الإِيمَانِ وَحَلاوتَهُ)).
- وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عَنْ أَنَسٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ، وَوَالِدِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
- وفي رِوَايَةٍ: ((مِنْ أَهْلِهِ، وَمَالِهِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)).
- وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عَنْ أَبِي رَزِينٍ الْعُقَيْلِيِّ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا الإِيمَانُ؟
قَالَ: ((أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ تَحْتَرِقَ فِي النَّارِ أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ أَنْ تُشْرِكَ بِاللَّهِ، وَأَنْ تُحِبَّ غَيْرَ ذِي نَسَبٍ لا تُحِبُّهُ إِلا لِلَّهِ، فَإِذَا كُنْتَ كَذَلِكَ فَقَدْ دَخَلَ حُبُّ الإِيمَانِ فِي قَلْبِكَ كَمَا دَخَلَ حُبُّ الْمَاءِ لِلظَّمْآنِ فِي الْيَوْمِ الْقَائِظِ)).
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ لِي بِأَنْ أَعْلَمَ أَنِّي مُؤْمنٌ؟
قَالَ: ((مَا مِنْ أُمَّتِي -أَوْ هَذِهِ الأُمَّةِ- عَبْدٌ يَعْمَلُ حَسَنَةً، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا حَسَنَةٌ، وَأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَازِيهِ بِهَا خَيْرًا، وَلا يَعْمَلُ سَيِّئَةً، فَيَعْلَمُ أَنَّهَا سَيِّئَةٌ، وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ مِنْهَا، وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لا يَغْفِرُ إِلا هُوَ، إِلا وَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
- وفي (المُسْنَدِ) وغَيْرِهِ: عَنْ عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ سَرَّتْهُ حَسَنَتُهُ، وَسَاءَتْهُ سَيِّئَتُهُ فَهُوَ مُؤْمِنٌ)).
-وفي (مُسْنَدِ بَقِيِّ بنِ مَخْلَدٍ): عنْ رَجُلٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((صَرِيحُ الإِيمَانِ: إِذَا أَسْأَتَ أَوْ ظَلَمْتَ أَحَدًا؛ عَبْدَكَ أَوْ أَمَتَكَ أَوْ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، صُمْتَ أَوْ تَصدَّقْتَ، وَإِذَا أَحْسَنْتَ اسْتَبْشَرْتَ)).
- وفي (مُسْنَدِ الإِمَامِ أَحْمَدَ): عنْ أَبِي سَعِيدٍ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ: ((الْمُؤْمِنُونَ فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلاثَةِ أَجْزَاءٍ: الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا، وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، وَالَّذِي يَأْمَنُهُ النَّاسُ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ، ثُمَّ الَّذِي إِذَا أَشْرَفَ عَلَى طَمَعٍ تَرَكَهُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
- وفيهِ أيضًا: عنْ عَمْرِو بنِ عَبَسَةَ قَالَ: قُلْتُ