تفسيرُ سورةِ تبَّت
(1-5){بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ (5)}
أبو لهبٍ هوَ عمُّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانَ شديدَ العداوةِ [والأذيةِ] للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فلا فيهِ دينٌ، ولا حميةٌ للقرابةِ - قبَّحهُ اللهُ - فذمّهُ اللهُ بهذا الذَّمِّ العظيمِ، الذي هوَ خزيٌ عليهِ إلى يومِ القيامةِ، فقالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: خسرتْ يداهُ، وشقيَ {وَتَبَّ}فلمْ يربحْ.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ}الذي كانَ عندهُ وأطغاهُ، ولا مَا كسبهُ فلمْ يردَّ عنهُ شيئاً منْ عذابِ اللهِ إذ نزلَ بهِ.
{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}أي: ستحيطُ بهِ النارُ منْ كلِّ جانبٍ، هو {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وكانتْ أيضاً شديدةَ الأذيةِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، تتعاونُ هيَ وزوجُهَا على الإثمِ والعدوانِ، وتلقي الشرَّ، وتسعى غايةَ ما تقدرُ عليهِ في أذيةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وتجمعُ على ظهرهَا منَ الأوزارِ بمنزلةِ منْ يجمعُ حطباً، قدْ أعدَّ لهُ في عنقهِ حبلاً {مِنْ مَسَدٍ} أي: من ليفٍ.
أو أنَّهَا تحملُ في النارِ الحطبَ على زوجهَا، متقلدةً في عنقِهَا حبلاً من مسدٍ، وعلى كلٍّ، ففي هذهِ السورةِ، آيةٌ باهرةٌ منْ آياتِ اللهِ، فإنَّ اللهَ أنزل هذهِ السورةَ، وأبو لهبٍ وامرأتهُ لمْ يهلكا، وأخبرَ أنهما سيعذبانِ في النارِ ولا بدَّ، ومنْ لازمِ ذلكَ أنهما لا يسلمانِ، فوقعَ كمَا أخبرَ عالمُ الغيبِ والشهادةِ.
_______________________________________________________________________________________________
سورة المسد
(1){تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: هَلَكَتْ يدَاهُ وخَسرتْ وخابَتْ {وَتَبَّ} أي: وهلَكَ هُوَ، أي: قد وَقَع ما دعا به عَلَيْه.
وأبو لهب عمُّ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمُه عبدُ العزَّى.
(2){مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي: لم يدْفع عنه ما جَمَعَ من المالِ، ولا ما كسبَ من الأرباحِ والجاهِ، ما حلَّ به من التَّبابِ، وما نَزَلَ به من عذَابِ الله.
(3){سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أي: سوفَ يُعذَّبُ في النَّار المُلتهبةِ، تحَرِقُ جلدَه، وَهِيَ ذاتُ اشتعالٍ وَتَوقُّدٍ، وهيَ نار جهنَّم.
(4){وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: وتَصلَى امرأتُه ناراً ذاتَ لهبٍ، وهي أمُّ جميلٍ بنتُ حربٍ أختُ أبي سفيانَ، وكانتْ تحملُ الغَضْي والشَوْكَ فتطرحُهُ بالليلِ على طريقِ النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
(5) {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ}والمَسَدُ: اللِّيفُ الذي تُفْتَلُ منه الحبَالُ: كانت لها قِلادَةٌ فَاخِرَةٌ من جَوْهَرٍ، فقالَتْ: (واللاّتِ والعُزَّى لأُنْفِقَنَّها في عَداوةِ محمّدٍ) فيكونُ ذلك عذاباً في جَسَدِها يومَ القيامةِ.
_______________________________________________________________________________________________
سورة المسد
أخرج البخاري عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصَعِدَ الجبلَ فنادى: ((يا صباحاه)) فاجتمعت قريش، فقال: ((أرأيتم إن حدَّثتكم أنَّ العدوَّ مُصَبِّحُكم أو ممسيكم، أكنتم مصدِّقِيَّ))؟ قالوا: نعم، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبَّاً لك، فأنزل الله:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}إلى آخرها).
1- 5 قولُه تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ(5)}.
هذا دعاء الهلاك والخسران على عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم المَكْنِيِّ بأبي لهب، وقد حصل له هذا، ذلك جزاءَ قولِه للنبي صلى الله عليه وسلم: (تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا(1) ؟).
أو غيره، يكون عليها كالقلادة التي توضع على العنق(4)، جزاء ما كانت تصنع في الدنيا برسول الله صلى الله عليه ثمَّ أخبر اللهُ أنَّ مالَ أبي لهب وولدَه لا ينفعونه ولا يَرُدُّون عنه عذابَ الله(2)، وأنه سيدخل ناراً تتوقَّد تشويه بحرِّها، وأنه ستدخل معه زوجُه أمُّ جميلٍ التي كانت تؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحمل الحطبِ الذي فيه الشوكُ فتلقيه في طريقه(3)، وقد جعل الله في عُنقها حبلاً مجدولاً ومفتولاً من ليف وسلم، والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
الحاشية :
(1)هذه الجملة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دعاء على أبي لهب، وإسناد التباب لليدين، كإسناد العمل لهما في مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}والمراد: خَسِرَ أبو لهب بسبب عمله الذي عَمِله مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة: {وَتَبَّ} جملة خبرية؛ أي: وقد حصل له التباب.
(2)تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَسَبَ} وما ولد، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي الطفيل ورجل من بني مخزوم، ومجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح، ونسبه ابن كثير إلى عائشة وعطاء والحسن وابن سيرين.
(3)اختلف السلف في تفسير {مَالَةَ الْحَطَبِ} على أقوال:
الأول:أنها تحمل الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ويزيد بن زيد الهمداني، وعطية الجدلي العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
الثاني:أنها كانت تمشي بالنميمة، وهو قول عكرمة من طريق محمد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسفيان الثوري من طريق مهران.
وحكى الطبري: أنها كانت تَحْطِبُ، أي: تجمع الحَطَبَ، فعُيِّرت بذلك، ولم ينسبه، وهو مخالف لحال أمِّ جميل: غناها وشرفها، والله أعلم.
قال الطبري: (وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك).
وفسَّر السلف الحطب بالشوك؛لأنها كانت تحمل أغصان الشوك، وهي الحطب، فتلقيها في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم لتُؤذيَه بها، والله أعلم.
وقد فسَّر ابن كثير الآية على أنه في الآخرة فقال: (… وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، ولهذا قال:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ(5)}؛ يعني تحمل الحطب فتلقيه على زوجها، ليزداد على ما هو فيه، وهي مهيَّأة لذلك مستعدَّةٌ له).
وهذا الفهم لم يرد عن السلف، بل حملوا حَمْلَها الحَطَبَ على أنه وصفٌ لها في الدنيا، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الفهم الذي فهمه ابن كثير، والله أعلم.
(4)ورد في تفسير المسد أقوال عن السلف:
الأول:حبال من الشجر تكون بمكة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن زيد، ويظهر أن المراد بهذه الحبال الليف.
الثاني:المسد: سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً، وهو قول عروة من طريق يزيد وسفيان الثوري وقال: (حبل في عنقها من النار، طوله سبعون ذراعاً).
وهذا التحديد يحتاج إلى قول المعصوم في خبره،وليس في هذه الآثار ما يدل على نقله عنه، وكون المَسَدِ يكون من الحديدِ صحيحٌ، أما هذا التحديد فيُتَوَقَّفُ فيه، والله أعلم.
الثالث:الحديد الذي يكون في البَكَرَةِ، ورد عن مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، من طريق الأعمش، لكن لم يذكر البَكَرَة، وعكرمة من طريق محمد.
الرابع:قلادة من وَدَعٍ في عنقها، ورد ذلك عن قتادة، ويحتمل أنه أراد أنه من صفتها في الدنيا؛ لأنه قال: (قلادة من ودع) ولم يحدد زمن لُبْسِها، والله أعلم.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو حبل جُمِعَ من أنواع مختلفة، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا، ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز:
ومَسَدٍ أُمِـرَّ مـن أَيَانِـقِصُهْبٍ عِتَاقٍ ذاتِ مُخٍّ زَاهِقِ
فجعل إمراره من شَتَّى، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب، أُمِرَّ من أشياء شتى: من ليف وحديد ولحاء، وجُعل في عنقها طوقاً كالقلادة من ودع؛ ومنه قول الأعشى:
تُمسِي فيَصْرِفُ بَابَها مِنْ دُونِنَاغَلَقاً صَرِيفَ مَحَالَةِ الأمْسَادِ
يعني بالأمساد: جمع مَسَدٍ، وهي الحبال).
والمسد في اللغة يطلق على معان؛ منها:
1-المسد: الفتل والجدل، وممسود؛ أي: مجدول من ليف أو غيره، ومنه قول من قال: (حبل من شجر بمكة، أو من ليف) وكذا من قال: (سلسلة) لأنها تكون مجدولة في الغالب، والله أعلم.
2-المسد: المحور من الحديد، أو البَكَرَة التي يلتف عليها حبل الدلو، وهو تفسير مجاهد وعكرمة، وعليه يحمل قول قتادة؛ كأنه شبه القلادة في جيدها بالبكرة التي تكون من حديد الذي يكون عليه حبل الدلو، ويوضح ذلك ما نسبه ابن كثيرلمجاهد، قال: (أي: طَوقُ حديدٍ، ألا ترى أن العربَ يُسمُّون البَكَرَةَ مَسَدا).
كما يحتمل أن يكون قولُ قتادةَ قولاً مستقلاً، ويكون معنىً آخرَ من معاني المَسَدِ، ومِنْ ثمَّ يكونُ الاختلاف عائداً إلى من معنى بسبب الاشتراك اللغوي، وهما معنيان محتملان، والله أعلم.
أبو لهبٍ هوَ عمُّ النبي صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانَ شديدَ العداوةِ [والأذيةِ] للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فلا فيهِ دينٌ، ولا حميةٌ للقرابةِ - قبَّحهُ اللهُ - فذمّهُ اللهُ بهذا الذَّمِّ العظيمِ، الذي هوَ خزيٌ عليهِ إلى يومِ القيامةِ، فقالَ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: خسرتْ يداهُ، وشقيَ {وَتَبَّ}فلمْ يربحْ.
{مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ}الذي كانَ عندهُ وأطغاهُ، ولا مَا كسبهُ فلمْ يردَّ عنهُ شيئاً منْ عذابِ اللهِ إذ نزلَ بهِ.
{سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ}أي: ستحيطُ بهِ النارُ منْ كلِّ جانبٍ، هو {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} وكانتْ أيضاً شديدةَ الأذيةِ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، تتعاونُ هيَ وزوجُهَا على الإثمِ والعدوانِ، وتلقي الشرَّ، وتسعى غايةَ ما تقدرُ عليهِ في أذيةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وتجمعُ على ظهرهَا منَ الأوزارِ بمنزلةِ منْ يجمعُ حطباً، قدْ أعدَّ لهُ في عنقهِ حبلاً {مِنْ مَسَدٍ} أي: من ليفٍ.
أو أنَّهَا تحملُ في النارِ الحطبَ على زوجهَا، متقلدةً في عنقِهَا حبلاً من مسدٍ، وعلى كلٍّ، ففي هذهِ السورةِ، آيةٌ باهرةٌ منْ آياتِ اللهِ، فإنَّ اللهَ أنزل هذهِ السورةَ، وأبو لهبٍ وامرأتهُ لمْ يهلكا، وأخبرَ أنهما سيعذبانِ في النارِ ولا بدَّ، ومنْ لازمِ ذلكَ أنهما لا يسلمانِ، فوقعَ كمَا أخبرَ عالمُ الغيبِ والشهادةِ.
_______________________________________________________________________________________________
سورة المسد
(1){تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} أي: هَلَكَتْ يدَاهُ وخَسرتْ وخابَتْ {وَتَبَّ} أي: وهلَكَ هُوَ، أي: قد وَقَع ما دعا به عَلَيْه.
وأبو لهب عمُّ النَّبِيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، واسمُه عبدُ العزَّى.
(2){مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} أي: لم يدْفع عنه ما جَمَعَ من المالِ، ولا ما كسبَ من الأرباحِ والجاهِ، ما حلَّ به من التَّبابِ، وما نَزَلَ به من عذَابِ الله.
(3){سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} أي: سوفَ يُعذَّبُ في النَّار المُلتهبةِ، تحَرِقُ جلدَه، وَهِيَ ذاتُ اشتعالٍ وَتَوقُّدٍ، وهيَ نار جهنَّم.
(4){وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} أي: وتَصلَى امرأتُه ناراً ذاتَ لهبٍ، وهي أمُّ جميلٍ بنتُ حربٍ أختُ أبي سفيانَ، وكانتْ تحملُ الغَضْي والشَوْكَ فتطرحُهُ بالليلِ على طريقِ النّبي صلَّى الله عليه وسلَّم.
(5) {فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ}والمَسَدُ: اللِّيفُ الذي تُفْتَلُ منه الحبَالُ: كانت لها قِلادَةٌ فَاخِرَةٌ من جَوْهَرٍ، فقالَتْ: (واللاّتِ والعُزَّى لأُنْفِقَنَّها في عَداوةِ محمّدٍ) فيكونُ ذلك عذاباً في جَسَدِها يومَ القيامةِ.
_______________________________________________________________________________________________
سورة المسد
أخرج البخاري عن ابن عباس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصَعِدَ الجبلَ فنادى: ((يا صباحاه)) فاجتمعت قريش، فقال: ((أرأيتم إن حدَّثتكم أنَّ العدوَّ مُصَبِّحُكم أو ممسيكم، أكنتم مصدِّقِيَّ))؟ قالوا: نعم، قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)) فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبَّاً لك، فأنزل الله:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}إلى آخرها).
1- 5 قولُه تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ(5)}.
هذا دعاء الهلاك والخسران على عمِّ الرسول صلى الله عليه وسلم المَكْنِيِّ بأبي لهب، وقد حصل له هذا، ذلك جزاءَ قولِه للنبي صلى الله عليه وسلم: (تبّاً لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا(1) ؟).
أو غيره، يكون عليها كالقلادة التي توضع على العنق(4)، جزاء ما كانت تصنع في الدنيا برسول الله صلى الله عليه ثمَّ أخبر اللهُ أنَّ مالَ أبي لهب وولدَه لا ينفعونه ولا يَرُدُّون عنه عذابَ الله(2)، وأنه سيدخل ناراً تتوقَّد تشويه بحرِّها، وأنه ستدخل معه زوجُه أمُّ جميلٍ التي كانت تؤذي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بحمل الحطبِ الذي فيه الشوكُ فتلقيه في طريقه(3)، وقد جعل الله في عُنقها حبلاً مجدولاً ومفتولاً من ليف وسلم، والله أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------
الحاشية :
(1)هذه الجملة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دعاء على أبي لهب، وإسناد التباب لليدين، كإسناد العمل لهما في مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}والمراد: خَسِرَ أبو لهب بسبب عمله الذي عَمِله مع النبي صلى الله عليه وسلم.
وجملة: {وَتَبَّ} جملة خبرية؛ أي: وقد حصل له التباب.
(2)تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَسَبَ} وما ولد، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي الطفيل ورجل من بني مخزوم، ومجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح، ونسبه ابن كثير إلى عائشة وعطاء والحسن وابن سيرين.
(3)اختلف السلف في تفسير {مَالَةَ الْحَطَبِ} على أقوال:
الأول:أنها تحمل الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ويزيد بن زيد الهمداني، وعطية الجدلي العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد.
الثاني:أنها كانت تمشي بالنميمة، وهو قول عكرمة من طريق محمد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسفيان الثوري من طريق مهران.
وحكى الطبري: أنها كانت تَحْطِبُ، أي: تجمع الحَطَبَ، فعُيِّرت بذلك، ولم ينسبه، وهو مخالف لحال أمِّ جميل: غناها وشرفها، والله أعلم.
قال الطبري: (وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك).
وفسَّر السلف الحطب بالشوك؛لأنها كانت تحمل أغصان الشوك، وهي الحطب، فتلقيها في طريق الرسول صلى الله عليه وسلم لتُؤذيَه بها، والله أعلم.
وقد فسَّر ابن كثير الآية على أنه في الآخرة فقال: (… وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، ولهذا قال:{وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِن مَسَدٍ(5)}؛ يعني تحمل الحطب فتلقيه على زوجها، ليزداد على ما هو فيه، وهي مهيَّأة لذلك مستعدَّةٌ له).
وهذا الفهم لم يرد عن السلف، بل حملوا حَمْلَها الحَطَبَ على أنه وصفٌ لها في الدنيا، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الفهم الذي فهمه ابن كثير، والله أعلم.
(4)ورد في تفسير المسد أقوال عن السلف:
الأول:حبال من الشجر تكون بمكة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن زيد، ويظهر أن المراد بهذه الحبال الليف.
الثاني:المسد: سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً، وهو قول عروة من طريق يزيد وسفيان الثوري وقال: (حبل في عنقها من النار، طوله سبعون ذراعاً).
وهذا التحديد يحتاج إلى قول المعصوم في خبره،وليس في هذه الآثار ما يدل على نقله عنه، وكون المَسَدِ يكون من الحديدِ صحيحٌ، أما هذا التحديد فيُتَوَقَّفُ فيه، والله أعلم.
الثالث:الحديد الذي يكون في البَكَرَةِ، ورد عن مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، من طريق الأعمش، لكن لم يذكر البَكَرَة، وعكرمة من طريق محمد.
الرابع:قلادة من وَدَعٍ في عنقها، ورد ذلك عن قتادة، ويحتمل أنه أراد أنه من صفتها في الدنيا؛ لأنه قال: (قلادة من ودع) ولم يحدد زمن لُبْسِها، والله أعلم.
قال الطبري: (وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو حبل جُمِعَ من أنواع مختلفة، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا، ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز:
ومَسَدٍ أُمِـرَّ مـن أَيَانِـقِصُهْبٍ عِتَاقٍ ذاتِ مُخٍّ زَاهِقِ
فجعل إمراره من شَتَّى، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب، أُمِرَّ من أشياء شتى: من ليف وحديد ولحاء، وجُعل في عنقها طوقاً كالقلادة من ودع؛ ومنه قول الأعشى:
تُمسِي فيَصْرِفُ بَابَها مِنْ دُونِنَاغَلَقاً صَرِيفَ مَحَالَةِ الأمْسَادِ
يعني بالأمساد: جمع مَسَدٍ، وهي الحبال).
والمسد في اللغة يطلق على معان؛ منها:
1-المسد: الفتل والجدل، وممسود؛ أي: مجدول من ليف أو غيره، ومنه قول من قال: (حبل من شجر بمكة، أو من ليف) وكذا من قال: (سلسلة) لأنها تكون مجدولة في الغالب، والله أعلم.
2-المسد: المحور من الحديد، أو البَكَرَة التي يلتف عليها حبل الدلو، وهو تفسير مجاهد وعكرمة، وعليه يحمل قول قتادة؛ كأنه شبه القلادة في جيدها بالبكرة التي تكون من حديد الذي يكون عليه حبل الدلو، ويوضح ذلك ما نسبه ابن كثيرلمجاهد، قال: (أي: طَوقُ حديدٍ، ألا ترى أن العربَ يُسمُّون البَكَرَةَ مَسَدا).
كما يحتمل أن يكون قولُ قتادةَ قولاً مستقلاً، ويكون معنىً آخرَ من معاني المَسَدِ، ومِنْ ثمَّ يكونُ الاختلاف عائداً إلى من معنى بسبب الاشتراك اللغوي، وهما معنيان محتملان، والله أعلم.