تفسيرُ سورةِ الفلقِ
(1-5) {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)}
أي: {قُلْ} متعوذاً {أَعُوذُ} أي: ألجأ وألوذُ، وأعتصمُ {بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: فالِق الحبِّ والنَّوى، وفالِق الإصباحِ.
{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}وهذا يشملُ جميعَ مَا خلقَ اللهُ، منْ إنسٍ، وجنٍّ، وحيواناتٍ، فيستعاذُ بخالقهَا منَ الشَّرِّ الذي فيهَا، ثمَّ خصَّ بعدما عمَّ، فقالَ: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي: من شرِّ مَا يكونُ في الليلِ حينَ يغشى الناسَ، وتنتشرُ فيهِ كثيرٌ منَ الأرواحِ الشّريرةِ، والحيواناتِ المؤذيةِ.
{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي: ومنْ شرِّ السواحرِ، اللاتي يستعنَّ على سحرهنَّ بالنَّفثِ في العقدِ، التي يعقدْنهَا على السحرِ.
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} والحاسدُ: هوَ الذي يحبُّ زوالَ النعمةِ عنِ المحسود،ِ فيسعى في زوالهَا بما يقدرُ عليهِ منَ الأسبابِ، فاحتيجَ إلى الاستعاذةِ باللهِ منْ شرهِ، وإبطالِ كيدهِ، ويدخلُ في الحاسد العاينُ، لأنَّهُ لا تصدرُ العينُ إلاَّ منْ حاسدٍ شريرِ الطبعِ، خبيثِ النفسِ، فهذهِ السورةُ تضمنتِ الاستعاذةَ من جميعِ أنواعِ الشرِّ، عموماً وخصوصاً.
ودلتْ على أنَّ السحرَ لهُ حقيقةٌ يخشى من ضررهِ، ويستعاذُ باللهِ منهُ [ومنْ أهلهِ]
_______________________________________________________________________________________________
سورة الفلق
أخرج مالك في الموطأ عن عائشة: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلى نَفْسِهِ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهِمَا).
(1) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلقُ: الصبحُ؛ لأن الليلَ ينفلقُ عنهُ.
وقيل: هو كلُّ ما انفلقَ عن جميعِ ما خلقَ اللهُ، من الحيوانِ، والصُبحِ، والحبِّ، والنّوى، وكلّ شيء من نبات وغيره.
(2) {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} أي: أعوذُ باللهِ من شرِّ كل ما خلَقهُ اللهُ سبحانهُ من جميعِ مخلوقاتِهِ.
(3) {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي: وأعوذُ بهِ من شرِّ الليلِ إذا أقبلَ، قالوا: لأنَّ في الليلِ تخرج السباعُ من آجامِهَا، والهوامُّ من أماكِنها، وينبعثُ أهل الشرِّ على العْيثِ والفسادِ.
(4) {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي: وأعوذ به من شرِّ النِّساءِ السَّاحراتِ، وذلك لأنهنَّ كُنَّ ينفثنَ في عُقَدِ الخيوطِ حين يسحَرْنَ بها.
(5){وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسَدُ: تمنِّي زوالِ النّعمةِ التي أنعمَ الله بها على المحسودِ.
_______________________________________________________________________________________________
سورة الفلق
سببُ نزولِ هذه السورةِ والتي بعدها:
سحرُ لبيد بن الأعصم اليهودي لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
ومما ينبغي أن يُعلمَ أن هذا السِّحْرَ لم يكن له أثرٌ على الجانب النبويِّ (تبليغ الوحي) بل كان فيما يتعلَّق ببشرِيَّته صلى الله عليه وسلم،حيث كان يرى أنه فعلَ الشيءَ، ولم يكن قد فعلَه.
وهاتانِ السورتانِ - الفلق والناس - تشتركانِ في اسمٍ واحد،وهو المعوِّذتان، ولهما فضائل؛ منها:
-أنهما معوِّذتان من السحرِ والعينِ.
-وأنهما تُقرَءان في أذكارِ دُبُرِ الصَّلَوات،وفي أذكارِ الصَّباح والمساء، وعند النوم.
1- قولُه تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} يُرشِدُ اللهُ سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يستجيرَ به: برُبوبيَّته للصُّبح، والمعنى: أستجيرُ بربِّ الصُّبح(1).
2- 5 قولُه تعالى: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
(3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أي: أستجيرُ بربِّ الصُّبح من شرِّ كلِّ خلقِه الذين خلقهُم، من جنٍّ وإنسٍ وهوامٍّ ودوابَّ وغيرها، ثمَّ خصَّ بعضَ ما خلقَه لزيادةِ ما فيها من شرٍّ، فطلبَ منه أن يستجيرَ به من شرِّ الليل إذا ظهرَ قمره، فدخلَ في الظلام(2).
ويستجيرَ به من شرِّ السَّواحِرِاللاتي ينفُخْنَ بلا رِيْقٍ على ما يعقِدْنَهُ من خيوطٍ وغيرِها عند إرادةِ السِّحر(3).
ويستجيرَ به من الذي يتمنَّى زوالَ نعمةِ الله عن غيرِه،الذي قد تمكَّنَ هذا الإحساسُ النفسيُّ الخبيثُ فيه، يستجير به من شرِّ عينه ونفسِه(4)، والله أعلم
--------------------------------------------------------------------------------
الحاشية :
(1) وردَ تفسير الفَلَقِ بالصُّبح عن ابن عباس من طريق العوفي، وجابر بن عبد الله، والحسن من طريق عوف، وسعيد بن جبير من طريق سالم الأفطس، ومحمد بن كعب القرظي من طريق أبي صخر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد، وقرأ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [ الأنعام: 96]، وزاد ابن كثيرٍ نِسبته إلى زيد بن أسْلَم من رواية مالك عنه، والبخاري في (صحيحه).
ووردت أقوالٌ أخرى، وهي:
- الفَلَق: جُبٌّ في جهنم، ورد عن ابن عباس من رواية مجهول عنه، ونسبه العوَّام بن عبد الجبار الجولاني لبعض الصحابة، وهو قول السدي من طريق سفيان، وكعب الأحبار، وروي في ذلك حديثٌ مرفوعٌ ((أن الفَلَقَ جُبٌّ في جهنم)) قال ابن كثير: (قد ورد في ذلك حديثٌ مرفوعٌ مُنكر) ثم ذكرَه، ثم قال: (إسناده غريب، ولا يصحُّ رفعه).
- الفَلَق: اسم من أسماء جهنم،ورد ذلك عن أبي عبد الرحمن الحبلي.
- الفَلَق: الخَلق، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ونسبه ابن كثير إلى الضحَّاك.
والقولُ الأولُ هو الصحيح؛ لأنه قول الجمهور، وهو المشهور من اللغة في إطلاق الفَلَق، كما قاله الطبري.
(2) ورد تفسيرُ الغاسقِ بالليل عنابن عباس من طريق العوفي وعلي بن أبي طلحة، والحسن من طريق عوف ومعمر وسعيد بن أبي عروبة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد.
وقد ورد غير ذلك، وهي:
- الغاسِقُ: كَوْكَبٌ، ورد عن أبي هريرة، وقال ابن زيد: (كانت العرب تقول: الغاسق: سقوطُ الثُّريَّا، وكانت الأسقامُ والطواعينُ تكثرُ عند وقوعها، وترتفعُ عند طلوعِها).
وروي في ذلك حديث: (النجم: الغاسق)، قال ابن كثير: (وهذا الحديث لا يَصِحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث آخر، وهو ما روته عائشة، قالت: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأراني القمرَ حين طلعَ، وقال: ((استعيذي من شرِّ هذا الغاسقِ إذا وَقَب)) أي: دخَل.
وهذا التفسير لا ينافي تفسير جمهور السلف في أنه الليل،قال ابن القيم: (هذا التفسير حقٌّ - يعني: تفسيره في الحديث بالقمر- ولا يناقضُ التفسيرَ الأول، بل يوافقه، ويشهدُ لصحَّته، فإنَّ الله تعالى قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
فالقمر آيةُ الليل، وسلطانه فيه، فهو أيضاً غاسق إذا وَقَب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ عن القمرِ بأنه غاسقٌ إذا وَقَب وهذا خبرُ صِدق، وهو أصدَق الخبرِ، ولم ينفِ عن الليل اسم الغاسق إذا وقب.
وتخصيصُ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي شمولَ الاسم لغيره.
(انظر: (بدائع التفسير) 5: 398، وله تتمة مهمة).
(3)يشملُ هذا الاستعاذة من السَّحَرَةِ ذُكوراً وإناثاً، كما قاله الحسن من طريق عوف.
وقيل: خصَّ إناثَ السَّحَرة بالذِّكر؛ لأن سِحْرَهُنَّ أقوى وأنفَذ.
وقيل: أراد الأنفسَ السَّواحِر، والمقصود الاستعاذة من السِّحر عموماً، وبه فسَّر السلف، فقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: ما خالطَ السِّحر من الرُّقَى، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر،والحسن من طريق قتادة، ومجاهد وعكرمة من طريق معمر،والحسن من طريق قتادة، ومجاهد وعكرمة من طريق جابر،وطاووس بن كيسان من طريق ابنه.
(4)ورد ذلك عن قتادة وعطاء الخراساني وطاووس كلهم من طريق معمر، وذكر ابن زيد اليهود في معنى الآية، وهم مثالٌ لمن ظهرَ فيهم الحسدُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نبوته، والخبر عامٌّ في كلِّ حاسدٍ كما قال الطبري: (وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: أمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذَ من شرِّ كلِّ حاسدٍ إذا حسدَ، فعانَهُ [أي: أصابه بعين]، أو سَحَرَه، أو بَغَاهُ بسوءٍ.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال؛ لأن اللهَ عزَّ وجلَّ لم يخصِّص من قوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} حاسداً دون حاسد، بل عَمَّ أمرُه إياه بالاستعاذة من شرِّ كلِّ حاسدٍ، فذلك على عمومه).[b]
أي: {قُلْ} متعوذاً {أَعُوذُ} أي: ألجأ وألوذُ، وأعتصمُ {بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي: فالِق الحبِّ والنَّوى، وفالِق الإصباحِ.
{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ}وهذا يشملُ جميعَ مَا خلقَ اللهُ، منْ إنسٍ، وجنٍّ، وحيواناتٍ، فيستعاذُ بخالقهَا منَ الشَّرِّ الذي فيهَا، ثمَّ خصَّ بعدما عمَّ، فقالَ: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي: من شرِّ مَا يكونُ في الليلِ حينَ يغشى الناسَ، وتنتشرُ فيهِ كثيرٌ منَ الأرواحِ الشّريرةِ، والحيواناتِ المؤذيةِ.
{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي: ومنْ شرِّ السواحرِ، اللاتي يستعنَّ على سحرهنَّ بالنَّفثِ في العقدِ، التي يعقدْنهَا على السحرِ.
{وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} والحاسدُ: هوَ الذي يحبُّ زوالَ النعمةِ عنِ المحسود،ِ فيسعى في زوالهَا بما يقدرُ عليهِ منَ الأسبابِ، فاحتيجَ إلى الاستعاذةِ باللهِ منْ شرهِ، وإبطالِ كيدهِ، ويدخلُ في الحاسد العاينُ، لأنَّهُ لا تصدرُ العينُ إلاَّ منْ حاسدٍ شريرِ الطبعِ، خبيثِ النفسِ، فهذهِ السورةُ تضمنتِ الاستعاذةَ من جميعِ أنواعِ الشرِّ، عموماً وخصوصاً.
ودلتْ على أنَّ السحرَ لهُ حقيقةٌ يخشى من ضررهِ، ويستعاذُ باللهِ منهُ [ومنْ أهلهِ]
_______________________________________________________________________________________________
سورة الفلق
أخرج مالك في الموطأ عن عائشة: (أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلى نَفْسِهِ بِالمُعَوِّذَتَيْنِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ عَلَيْهِ، رَجَاءَ بَرَكَتِهِمَا).
(1) {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} الفلقُ: الصبحُ؛ لأن الليلَ ينفلقُ عنهُ.
وقيل: هو كلُّ ما انفلقَ عن جميعِ ما خلقَ اللهُ، من الحيوانِ، والصُبحِ، والحبِّ، والنّوى، وكلّ شيء من نبات وغيره.
(2) {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} أي: أعوذُ باللهِ من شرِّ كل ما خلَقهُ اللهُ سبحانهُ من جميعِ مخلوقاتِهِ.
(3) {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} أي: وأعوذُ بهِ من شرِّ الليلِ إذا أقبلَ، قالوا: لأنَّ في الليلِ تخرج السباعُ من آجامِهَا، والهوامُّ من أماكِنها، وينبعثُ أهل الشرِّ على العْيثِ والفسادِ.
(4) {وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} أي: وأعوذ به من شرِّ النِّساءِ السَّاحراتِ، وذلك لأنهنَّ كُنَّ ينفثنَ في عُقَدِ الخيوطِ حين يسحَرْنَ بها.
(5){وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} الحسَدُ: تمنِّي زوالِ النّعمةِ التي أنعمَ الله بها على المحسودِ.
_______________________________________________________________________________________________
سورة الفلق
سببُ نزولِ هذه السورةِ والتي بعدها:
سحرُ لبيد بن الأعصم اليهودي لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم.
ومما ينبغي أن يُعلمَ أن هذا السِّحْرَ لم يكن له أثرٌ على الجانب النبويِّ (تبليغ الوحي) بل كان فيما يتعلَّق ببشرِيَّته صلى الله عليه وسلم،حيث كان يرى أنه فعلَ الشيءَ، ولم يكن قد فعلَه.
وهاتانِ السورتانِ - الفلق والناس - تشتركانِ في اسمٍ واحد،وهو المعوِّذتان، ولهما فضائل؛ منها:
-أنهما معوِّذتان من السحرِ والعينِ.
-وأنهما تُقرَءان في أذكارِ دُبُرِ الصَّلَوات،وفي أذكارِ الصَّباح والمساء، وعند النوم.
1- قولُه تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} يُرشِدُ اللهُ سبحانه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يستجيرَ به: برُبوبيَّته للصُّبح، والمعنى: أستجيرُ بربِّ الصُّبح(1).
2- 5 قولُه تعالى: {مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ
(3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} أي: أستجيرُ بربِّ الصُّبح من شرِّ كلِّ خلقِه الذين خلقهُم، من جنٍّ وإنسٍ وهوامٍّ ودوابَّ وغيرها، ثمَّ خصَّ بعضَ ما خلقَه لزيادةِ ما فيها من شرٍّ، فطلبَ منه أن يستجيرَ به من شرِّ الليل إذا ظهرَ قمره، فدخلَ في الظلام(2).
ويستجيرَ به من شرِّ السَّواحِرِاللاتي ينفُخْنَ بلا رِيْقٍ على ما يعقِدْنَهُ من خيوطٍ وغيرِها عند إرادةِ السِّحر(3).
ويستجيرَ به من الذي يتمنَّى زوالَ نعمةِ الله عن غيرِه،الذي قد تمكَّنَ هذا الإحساسُ النفسيُّ الخبيثُ فيه، يستجير به من شرِّ عينه ونفسِه(4)، والله أعلم
--------------------------------------------------------------------------------
الحاشية :
(1) وردَ تفسير الفَلَقِ بالصُّبح عن ابن عباس من طريق العوفي، وجابر بن عبد الله، والحسن من طريق عوف، وسعيد بن جبير من طريق سالم الأفطس، ومحمد بن كعب القرظي من طريق أبي صخر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد، وقرأ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} [ الأنعام: 96]، وزاد ابن كثيرٍ نِسبته إلى زيد بن أسْلَم من رواية مالك عنه، والبخاري في (صحيحه).
ووردت أقوالٌ أخرى، وهي:
- الفَلَق: جُبٌّ في جهنم، ورد عن ابن عباس من رواية مجهول عنه، ونسبه العوَّام بن عبد الجبار الجولاني لبعض الصحابة، وهو قول السدي من طريق سفيان، وكعب الأحبار، وروي في ذلك حديثٌ مرفوعٌ ((أن الفَلَقَ جُبٌّ في جهنم)) قال ابن كثير: (قد ورد في ذلك حديثٌ مرفوعٌ مُنكر) ثم ذكرَه، ثم قال: (إسناده غريب، ولا يصحُّ رفعه).
- الفَلَق: اسم من أسماء جهنم،ورد ذلك عن أبي عبد الرحمن الحبلي.
- الفَلَق: الخَلق، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ونسبه ابن كثير إلى الضحَّاك.
والقولُ الأولُ هو الصحيح؛ لأنه قول الجمهور، وهو المشهور من اللغة في إطلاق الفَلَق، كما قاله الطبري.
(2) ورد تفسيرُ الغاسقِ بالليل عنابن عباس من طريق العوفي وعلي بن أبي طلحة، والحسن من طريق عوف ومعمر وسعيد بن أبي عروبة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد.
وقد ورد غير ذلك، وهي:
- الغاسِقُ: كَوْكَبٌ، ورد عن أبي هريرة، وقال ابن زيد: (كانت العرب تقول: الغاسق: سقوطُ الثُّريَّا، وكانت الأسقامُ والطواعينُ تكثرُ عند وقوعها، وترتفعُ عند طلوعِها).
وروي في ذلك حديث: (النجم: الغاسق)، قال ابن كثير: (وهذا الحديث لا يَصِحُّ رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم).
وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث آخر، وهو ما روته عائشة، قالت: (أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأراني القمرَ حين طلعَ، وقال: ((استعيذي من شرِّ هذا الغاسقِ إذا وَقَب)) أي: دخَل.
وهذا التفسير لا ينافي تفسير جمهور السلف في أنه الليل،قال ابن القيم: (هذا التفسير حقٌّ - يعني: تفسيره في الحديث بالقمر- ولا يناقضُ التفسيرَ الأول، بل يوافقه، ويشهدُ لصحَّته، فإنَّ الله تعالى قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12].
فالقمر آيةُ الليل، وسلطانه فيه، فهو أيضاً غاسق إذا وَقَب، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ عن القمرِ بأنه غاسقٌ إذا وَقَب وهذا خبرُ صِدق، وهو أصدَق الخبرِ، ولم ينفِ عن الليل اسم الغاسق إذا وقب.
وتخصيصُ النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي شمولَ الاسم لغيره.
(انظر: (بدائع التفسير) 5: 398، وله تتمة مهمة).
(3)يشملُ هذا الاستعاذة من السَّحَرَةِ ذُكوراً وإناثاً، كما قاله الحسن من طريق عوف.
وقيل: خصَّ إناثَ السَّحَرة بالذِّكر؛ لأن سِحْرَهُنَّ أقوى وأنفَذ.
وقيل: أراد الأنفسَ السَّواحِر، والمقصود الاستعاذة من السِّحر عموماً، وبه فسَّر السلف، فقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: ما خالطَ السِّحر من الرُّقَى، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر،والحسن من طريق قتادة، ومجاهد وعكرمة من طريق معمر،والحسن من طريق قتادة، ومجاهد وعكرمة من طريق جابر،وطاووس بن كيسان من طريق ابنه.
(4)ورد ذلك عن قتادة وعطاء الخراساني وطاووس كلهم من طريق معمر، وذكر ابن زيد اليهود في معنى الآية، وهم مثالٌ لمن ظهرَ فيهم الحسدُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على نبوته، والخبر عامٌّ في كلِّ حاسدٍ كما قال الطبري: (وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: أمرَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أن يستعيذَ من شرِّ كلِّ حاسدٍ إذا حسدَ، فعانَهُ [أي: أصابه بعين]، أو سَحَرَه، أو بَغَاهُ بسوءٍ.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال؛ لأن اللهَ عزَّ وجلَّ لم يخصِّص من قوله: {وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)} حاسداً دون حاسد، بل عَمَّ أمرُه إياه بالاستعاذة من شرِّ كلِّ حاسدٍ، فذلك على عمومه).[b]